السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

المياة الجوفية تهدد 300 عاماً من تاريخ مسجد «المحلى» فى رشيد

المياة الجوفية تهدد 300 عاماً من تاريخ مسجد «المحلى» فى رشيد
المياة الجوفية تهدد 300 عاماً من تاريخ مسجد «المحلى» فى رشيد




تحقيق وتصوير - علاء الدين ظاهر

 

عندما تجد تاريخا عمره يصل إلى 300 عام غارقا فى المياه الجوفية ويكاد يتداعى وينهار ماذا تفعل؟ بالتأكيد ستصاب بحالة من الحزن العميق وغصة فى القلب على تراث تعرض لإهمال حتى أصبح مجرد صورة منعكسة فى المياه الجوفية التى ملأته.. ربما كان السفر إلى مدينة رشيد فى محافظة البحيرة شاقا ومتعبا بحق، لكن المشقة هانت بعدما رأيته بنفسى حينما دخلته.. عن «المحلى» أتحدث.. ذلك المسجد الذى تسبح جدرانه وأعمدته ومنبره فى المياه الجوفية التى تغرقه بكامل مساحته من الداخل.. وعلى ألواح خشبية ضيقة تمثل طريق السير بداخله تفقدته.. وكان هذا التحقيق الذى أجرته جريدة روزاليوسف اليومية لرؤية وضع المسجد على الطبيعة والبحث عن حل.

تاريخيا مسجد المحلى يعد ثانى أكبر مساجد رشيد بعد مسجد زغلول، ومسجل فى الآثار الإسلامية والقبطية بالقرار الملكى رقم 10357لسنة 1951م، ويرجع تاريخ إنشائه إلى 1134هـ: 1721م، ويضم ثلاثة مداخل والسبيل بالواجهة الشرقية، ويضم 12 بائكة من عقود مدببة تقوم على أعمدة متنوعة الأحجام والأشكال تحمل السقف الخشبى، وبه ضريح يتوسط رواق القبلة، ومنبر المسجد من خشب الخرط المتنوع والحشوات الخشبية عليه كتابات بخط النسخ، والمئذنة من ثلاثة أدوار وشرفة تقوم على مقرنصات يزخرف بدنها زخارف جصية.

قبل أن نتحدث عن مظاهر التلف و«البهدلة» - كما وصفها الأهالى - من الداخل، رأينا بالخارج سقالات تحيط بالمسجد كما الوضع مزرى حيث الأحجار المخلوطة بالمياه الجوفية منتشرة أمام المسجد، ورأينا التلف يظهر فى أحد كوشتى عقد المدخل وتلف آخر فى عناصر الطوب المنجور، أما المئذنة فتظهر عليها بوضوح آثار عوامل التعرية والتلف مما يؤكد أن أعمال الترميم لم تتطرق إليها منذ فترة.
وفى الداخل حدث ولا حرج، المياه التى وصفناها فى السابق تسببت فى ارتفاع منسوب الرطوبة والأملاح على الجدران، كما يوجد تلف فى العناصر الجصية الزخرفية وبلاطات القاشانى الآثرية بمدخل حجرة الضريح، وتلف بلوحة سبيل المياه بحجرة صهريج المسجد، ودكة المبلغ الخشبية تظهر بوضوح مظاهر تلف فى العناصر الخشبية المخروطة بها.
أعمال ترميم المسجد متوقفة منذ ثورة 25 يناير 2011، وقد بدأت أعمال الترميم المعمارى فى 2008م، وقد تم عمل طبقة إحلال للتربة بأرضية المسجد وطبقة عزل من شرائح البوتامين المعالج بأرضية المسجد بالكامل باستثناء الصحن السماوى المكشوف وأسفل قواعد الأعمدة، كما تم عمل تربيط بين قواعد الأعمدة عن طريق عمل أساسات بعمق 125سم، وتم ترميم وتغيير التآلف من السقف الخشبى للمسجد.
كما تضمنت الأعمال التى بدأت 2008 ترميم التآلف من صفوف الطوب بجدران المسجد الأربعة باستثناء المداخل، وصلب عقود المسجد بالكامل وترميم القطاع الشمالى من تلك العقود، كما طالب تقرير الاستشارى المعد للمشروع حينها (مركز هندسة الآثار والبيئة- كلية الهندسة- جامعة القاهرة) بضرورة استبدال بعض الأعمدة الرخامية والجرانيتية حفاظا على الثبات الإنشائى للمسجد وحتى لا يتعرض للانهيار فى أى لحظة، كما أظهر تقرير المعاينة على الطبيعة واجراء قياسات الموجات فوق الصوتية على جميع أعمدة المسجد لتسجيل زمن مرور هذه الموجات من خلال الأعمدة، وجود ارتفاع فى منسوب المياه الأرضية بالمسجد مما يعتبر من أهم عوامل التلف المؤثرة على الأعمدة مما أدى إلى وصول الكثير منها إلى حالة من التلف الشديد وفقدان الكثير من الأعمدة قوة تحمله للأحمال الإنشائية، كذلك وجود شروخ نافذة وغائرة وتآكل الأسطح الخارجية لبعض الأعمدة وتفكك الحبيبات المعدنية المكونة لها والذى امتد لعمق هذه العمدة مما أثر على كفاءتها الإنشائية.
وحسب التقرير، فقد أعطت الأشعة التى تم تسليطها على الأعمدة باستخدام جهاز الموجات فوق الصوتية قيما مختلفة لقوة تحمل الضغط أظهرت الضعف الشديد لكثير منها، حيث يحتوى الكثير منها على شروخ وانفصالات كبيرة وفقدان لأجزاء كبيرة من كتلتها مما أدى إلى انخفاض أقطارها وبالتالى التأثير الشديد على قدرتها الإنشائية.
كما وجدت أعمدة مكونة من جزئين أو ثلاثة وقد تعرضت أماكن الاتصال فيما بين هذه الأجزاء إلى التآكل والانفصال وكذلك عدم انتظام سمك أقطارها، كذلك تبين أن الكثير من تيجان الأعمدة استعملت كقواعد وهى تحمل زخارف، وقد تعرضت للتلف والتدهور الشديد نتيجة احتكاكها المباشر بأرضية المسجد والمياه الأرضية، بالإضافة إلى فقدان أجزاء منها ووجود شروخ نافذة وانفصالات فى البعض منها.
وبناء على تلك النتائج، فقد رأى الاستشارى تغيير 34 عمودا بالكامل، ووجود 4 أعمدة تحتاج تغيير واستبدال أبدانها وترميم دقيق، و34 عمودا تحتاج تغيير قواعدها وأعمال ترميم دقيق، و16 عمودا لا تحتوى على قاعدة وتحتاج لتوريد قاعدة وأعمال ترميم دقيق، و10 أعمدة تحتاج لتغيير تيجانها وترميم دقيق، و31 عمودا تحتاج إلى أعمال ترميم ترميم دقيق فقط.
وذكر التقرير أن المشروع التعاقدى لمساجد رشيد ليس بها أى خفض لمنسوب المياه الجوفية، نظرا لعدم وجود شبكة صرف صحى بالمدينة حتى يمكن الصرف عليها، ولتلافى وجود المياه الجوفية تم استخدام أسلوب العزل الأفقى محكم إحكاما تاما خاصة أنه تم تنفيذه بنجاح فى مساجد (الجندى - النور - الصامت)، إلا أنه لم يتم استكمال العزل لباقى المسجد نظرا لوجود بعض الأعمدة التالفة التى سيتم استبدالها واستبدال بعض القواعد الأخرى طبقا لرأى الاستشاري، وقد وافقت اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية بجلستها بتاريخ 25/ 11/ 2013 م على فك تلك الأعمدة التآلفة مع الحفاظ على الأعمدة ذات النوعية النادرة.
أزمة المسجد مع المياه سواء الجوفية أو الصرف الصحى قديمة ومتجددة دون حل ناجح، وهو ما اكتشفناه فى كتاب «المبانى التاريخية فى مصر- الجزء الأول «رشيد» وهو نتاج المشروع الذى أنجزه فريق عمل نظم المعلومات الآثار المصرية (من 2000 إلى 2007) من خلال نظم المعلومات الجغرافية بالمجلس الأعلى للآثار وشراكته مع جمعية نظم معلومات الآثار المصرية، ومشاركة تمويلية من الاتحاد الأوروربى من خلال برنامج المساعدات الأوروبية.
الكتاب صدر عام 2008 وجاء فيه أن المسجد وإن كان بحالة جيدة من الحفظ لكن تعانى الأجزاء السفلية من الجدران من تأثير الرطوبة والأملاح، ما سبب تساقط طبقة الملاط، ويعانى من مخاطر الرطوبة والأمطار والتغيرات الموسمية فى الحرارة والمياه تحت السطحية ومياه الصرف الصحي، والبناء والزحف العمرانى والتلوث البصرى والإشغالات، حيث تتواجد أكشاك الباعة بامتداد الواجهة مما يعيق النظر.
وطبقا لما جاء فى الكتاب، فقد أجريت عملية ترميم للمسجد عام 1993وتضمنت فك 6 أعمدة وإصلاح وتثبيت الأرضيات، وإعادة تركيب عمودين فى حالة جيدة وإستبدال 4 أعمدة بأخرى مع إعادة العقود بأكملها وتركيب براطيم خشبية جديدة بالأسقف ووضع طبقة من الطلاء على الجدران.
والمسجد كما جاء بالكتاب ينسب إلى السيد على المحلى المعروف بالمحلاوى المتوفى فى 901 هجري/ 1495ميلادى فى عهد السلطان الأشرف أبى النصر قايتباي، وقد ورد ذكر المسجد فى وثائق مؤرخة بأعوام 1047 هجري/ 1637ميلادي، 1057هجري/ 1647ميلادي، وقد نقش على المنبر نص باسم الحاج أحمد نعمة الله الذى جدد المسجد ونقل إليه المنبر وهو مؤرخ بعام 1134 هجري/ 1721ميلادي.
سألنا محمد تهامى مدير عام آثار رشيد عن سبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية أسفل أساسات وأرضية المسجد، فقال لنا أن ذلك بسبب انخفاض ارضيته عن الشوارع المحيطة به خاصة الشارع الغربي، بجانب عدم وجود شبكة للصرف الصحى برشيد ولم ينتهوا منها حتى الآن، هذا أثر على ارتفاع نسبة الرطوبة والأملاح بالجدران والأعمدة، اضف إلى ذلك عوامل الطبيعة فى رشيد خاصة الجو الحار الرطب صيفا والمطر الغزير شتاء.
وكشف لنا أنه أثناء أعمال الترميم المعمارى فى 2009 وإحلال وتجديد أرضية المسجد، تم اكتشاف أكثر من فوهة صهريج للمياه كانت قد سدت بالخرسانة أثناء ترميم المسجد عام 1985، حيث إنه عندما يرتفع منسوب مياه النهر ترتفع المياه التحتية بأرضية المسجد، وعندما ينخفض المنسوب بالنهر تنخفض المياه بأرضية المسجد، ولابد من حل هندسى يقرره الاستشارى بخصوص هذه الفتحات، كما أن توقف الترميم قبل 5 سنوات حتى الآن أثر بالسلب على الأساسات والأعمدة الحاملة للعقود المدببة التى تحمل سقف المسجد الخشبي، وحدث لهذه العقود عملية رفس لمعظمها وهو ما تم صلبه من قبل الشركة المنفذة للأعمال فى 2009.
من جهته، قال السعيد حلمى رئيس قطاع الآثار الإسلامية بوزارة الآثار إن أعمال ترميم المسجد متوقفة منذ 5 سنوات نتيجة الأزمة المالية التى تعانى منها الوزارة بعد ثورة 25 يناير، وقد قام الدكتور خالد العنانى وزير الآثار بزيارة رشيد وشاهد المسجد من الداخل والخارج على الطبيعة، وعقد جلسة مع محافظ البحيرة بحضور الاستشاريين بالمشروع، وكانت تعليماته واضحة بحل المشاكل أو الأزمات خاصة المالية التى تعيق أعمال ترميم المسجد والبدء فيها فى أسرع وقت.
وتابع رئيس القطاع قائلا: كانت هناك قضية بين المقاول والإدارة الهندسية بالآثار وتم حفظها فى النيابة، وبناء على ذلك اتخذ مجلس الإدارة قرارا بعودة شركة المجاهد لاستئناف أعمال الترميم مرة أخرى، حيث أنها كانت متوقفة منذ 5 سنوات مما تطلب استحداث مقايسة العمل وبياناتها مرة أخرى، وهو ما يقوم به مركز البحوث وهندسة الآثار بكلية هندسة جامعة القاهرة، والذى طلب القائمون عليه مهلة شهر لإعدادها وبعدها يبدأ مشروع الترميم مرة أخرى.
وقال: إنه بعد زيارة الدكتور خالد العنانى وزير الآثار لرشيد وتفقده للمسجد بنفسه على الطبيعة، بدأ المقاول على الفور فى تركيب الشدات لصلب بعض الأجزاء الخطرة بالمسجد لحين وصول الموافقة على المشروع وانتهاء الإجراءات الإدارية والفنية للبدء فيه، خاصة أن المسجد بالفعل حالته صعبة والمياه الجوفية تمثل خطورة شديدة عليه وتهدده، هذا يتطلب عمل مشروع لخفض المياه الجوفية، وبعدها سيكون من السهل ترميم المسجد لإنقاذه.
من جانبه قال المهندس وعد الله أبوالعلا رئيس قطاع المشروعات بوزارة الآثار: إن كلية الهندسة بجامعة القاهرة تقوم حاليا بعمل دراسة جديدة مقرر لها أن تستغرق شهرا، وبعد الانتهاء منها سيتم بدء العمل فى مشروع ترميم المسجد، حيث إن هذه الدراسة ستحدد بدقة ما يحتاجه المسجد للترميم من الناحية الإنشائية والمعمارية، مشيرا إلى أن الترميم سيستغرق وقتا مثل كل الآثار القديمة التى تحتاج لوقت ودقة فى العمل بلا تسرع، مثل الرجل الكبير فى السن عندما يدخل عناية مركزة والتعامل معه يحتاج لدقة ومهارة.