الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

سترة مواطن تتحدى بيروقراطية «السلم والثعبان» بدار الأوبرا

سترة مواطن تتحدى بيروقراطية «السلم والثعبان» بدار الأوبرا
سترة مواطن تتحدى بيروقراطية «السلم والثعبان» بدار الأوبرا




لا تتردد، حين يدعوك المخرج خالد جلال لمشاهدة أحد أعماله الجديدة، لأنه من الصعب أن تجد عملا تقليديا، أو متوقعا، فدائما ما يفاجئك، بكل ما هو غير مألوف، ومتجاوزا لتوقعاتك، فأصبحت أعماله، مثل العلامات التجارية، «trade mark»، يكفى أنها تحمل توقيعه عليها، كى تعلم جيدا، أنك على موعد مع مزيج من المتعة البصرية والبهجة والإبهار، بقدر ما يحمل من مهنية واحتراف، ففى كل عرض يتفنن جلال فى صناعة المفاجآت، ويتساوى فى عروضه الهواة بالمحترفين.
كان عرض «السلم والثعبان» هو آخر عروضه، التى قدمها الخميس الماضى على خشبة المسرح الكبير بدار الأوبرا، والعرض أنتجته جامعة المستقبل، كعادتها تحتفل، فى نهاية العام الدراسى مع طلابها بإنتاج أعمال فنية، وسبق وأن قدم جلال فى نفس التوقيت، على مدار عامين عرضى «روميو وجوليت» و«هاملت المليون»، للمؤلف الإنجليزى وليم شكسبير، وهذا العام يقدم لنا عرض «سترة من المخمل»، للمؤلف البلغارى ستانسلاف ستراتييف، والتى أطلق عليها اسم «السلم والثعبان»، تماشيا مع الصورة المسرحية التى ظهر عليها العرض، والتى جاءت أشبه بتصميم شكل لعبة «السلم والثعبان»

يتناول العرض قصة عالم لغويات قام بشراء سترة، بسبب تغير الأحوال الجوية، كى يحتمى بها من البرد، ثم يكتشف أنها تحمل وبر خروف، فيقرر الذهاب لحلاق المدينة، كى يحلق له وبر هذه السترة، حتى يتمكن من ارتدائها، لكنه فوجئ بانزعاج الحلاق، من طلبه ويصفه بالجنون، ثم يشير عليه بالذهاب إلى الجميعة الزراعية، لأنها الأقدر على جز صوف هذه السترة، ويشترط عليه كاتب المزرعة، أن يسجل سترته على أنها خروف، وفجأة يكتشف الرجل إنذارًا بالتهرب الضريبى، لأنه يمتلك خروفا ولم يدفع ضرائب عنه، وتنطلق من هنا أحداث المسرحية، ورحلة عذاب الرجل، مع الموظفين والبيروقراطية العقيمة، التى تعانى منها المؤسسات الحكومية، التى تتعامل مع الوثائق بشكل روتينى أعمى دون الالتفات للحقائق، ويظل فى حيرة ومقابلات متفرقة، مع أكثر من موظف دون جدوى فى إقناعهم، أنه لا يمتلك خروفا بينما سترة تحمل وبر خروف، ويبدأ الابتزاز والطلبات المبالغ فيها، يطلب منه أحد الموظفين أن يأتى بوثيقة مختومة، تؤكد على أنه نجح فى قتل فأر حتى يتم إعفاؤه من الضرائب، ويدور الرجل طوال العمل فى حلقة مفرغة وحيرة من أمره بين الموظفين المعتقلين داخل مكاتبهم والمكبلين بأغلال قوانينها.
يعكس العمل الحالة المزرية، التى تعانى منها المصالح الحكومية خاصة فيما يتعلق بحياة البشر وتناول بسخرية لاذعة، مدى تفشى الظلم والفساد، فى هذه المؤسسات إلى الحد الذى وصل بهذه المصلحة أنها تسببت، فى إيقاف حياة أحد العاملين بها وهو الرجل المعلق، الذى ظل عالقا، بمصعدها، ولم تنجح فى إنزاله منها منذ عشر سنوات، لتتوقف حياته عند هذه النقطة، وفى هذا المكان الذى أصبح مستلمسا لوضعه فيه، دون مقاومة، وكل أمله، أن يتخرج ابنه الذى درس علم الميكانيا، كى يخرجه، ثم يفاجأ بأن الابن لم يدرس هذه النوعية العتيقة، من الميكانات القديمة، وبالتالى لن يتمكن من إخراجه!! وهكذا استعرضت المسرحية فى كل تفاصيلها الدرامية بتهكم وسخرية، الأوضاع المتردية التى قد يصل إليها المواطنون، فى الدول المتخلفة بسبب استسلام موظفيها للعجز والقيود، فهم يحيون أمواتا، وأسرى للعجز والبيروقراطية.
من هذه النقطة انطلق خيال مهندس الديكور حازم شبل، كان الأكثر تعبيرا وتضافرا والتحاما، بأجواء العمل الدرامية، فلم يكن ديكور مسرحى تقليدى، بل كان تكوين وتشكيل لصورة مبهرة خطفت أبصار الجمهور فور رفع الستارة السوداء، بعد انتهاء مشهدى الحلاق والجمعية الزراعية، صمم شبل بدقة ومهارة شديدة تفاصيل المؤسسة، هذا المبنى البالى العتيق، لم يستخدم ألوانا تذكر بل اعتمد على لون واحد باهت، كى ينزع الحياة من هذا المكان، بجانب المتاريس التى نفذها فى عمق المسرح، وخلفية الديكور من الداخل، والتى بدت وكأن موظفى المصلحة تهدس إنسانيتهم داخلها، خاصة الرجل المعلق بالمصعد، الذى وقع مصعده فى منتصف حركتها الدائرية المستمرة، وكأنها أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياته الضائعة التى تاهت بين هذه المتاريس، ثم قسم خشبة المسرح إلى مستويات متعددة ضمت 13 غرفة مكتب يفصل بينهم سلالم صغيرة، وهى المكاتب التى يتحرك بداخلها، بطل العرض فى حيرته حتى يصل إلى مكتب المدير الكبير، الذى علا خشبة المسرح وكان سيد الموقف، بحيث جاء كرسى ومكتب المدير على شكل ختم كبير، وضع فى مستوى عالى بالمسرح كى يمنحك انطباعًا حقيقيًا، بمدى سيطرة هذا الختم على عقول وقلوب مستخمديه، وكأنه ربهم الأعلى، وهم عبيده، ونفاجأ فى نهاية العرض تحول الختم، فى حركة دائرية بسيطة إلى مقعد مدير المصلحة الذى يجلس عليه، ويستقر فيه مكتبه، وبالتالى كان التصميم شديد العمق والرمزية، سواء فى المتاريس المتحركة بعمق الديكور، والتى يقبع فى داخلها مصعد الرجل المعلق، أو بهذا الختم الكبير الذى أفرز تحته عددًا لا حصر له، من الدفاتر والسجلات التى يغرق بينها موظفى هذه المصلحة، وإمعانا فى الرمزية وقوة التعبير استخدم مهندس الديكور أيضا طباعات مجسمة «print 3D»، فى صنع الدفاتر والسجلات الكثيرة، التى تناثرت بين مكاتب الموظفين وتوزعت بمهارة شديدة حولها، فبدا المسرح وكأنه مصلحة حكومية، قديمة لا يخرج منها سوى عبق رائحة الختم والدفاتر الصفراء.
ساهمت أيضا تصميمات ملابس مروة عودة، فى استكمال اللوحة التشكيلية التى رسمها المخرج خالد جلال ومهندس الديكور حازم شبل، لم تكتف مروة بصنع ملابس باهتة للموظفين للتعبير عن نفس حالة الشحوب التى يعيشها هؤلاء، لكنها ميزت أيضا بينهم وبين ملابس الرجل صاحب القضية، الذى يرتدى ملابس زاهية هو وزملاؤه، فتناثرت علبة ألوان محكمة التناسق والاختيار، على خشبة المسرح والتى نفذت بإحكام مطلق، فى ملابس الممثلين والراقصين، ومع إضاءة ياسر شعلان، خرجت سينوغرافيا العرض شديدة التميز والجمال، فكأنك أمام لوحة تشكيلية كبيرة ينبض رسمها أمامك بالحياة، وهكذا كانت عناصر العمل الأخرى، ساعدت استعراضات مجدى صابر، على موسيقى وألحان أحمد طارق يحيى وشريف عبدالمنعم، فى إضفاء حالة من البهجة على العرض، كان منها استعراض «الجواكيت»، «الموظفين»، «الرشوة»، «الوحدة»، «هم النم يا روحي»، «الكفار»، «الزومبي»، «مبروك استاذ ايفانوف»، «يا ايفان يابو دم خفيف»، «السبوع»، و«الحكاية مخلصتش».
شهد هذا العمل أيضا ولادة، نجوم من شباب المسرح المحترفين، والذين أثبتوا وبجدارة، أنهم على استعداد تام لتحمل مسئولية بطولة عرض ضخم بأكمله، من البداية للنهاية، هم كريم شهدى فى دور إيفان، الذى أدى دوره ببساطة وتلقائية، وكأنه ممثل مسرحى قديم، ونديم هشام فى دور الرجل المعلق بيتر، والذى ينبئ بمستقبل كبير فى هذا المجال، خاصة بالأدوار المعقدة والتى تحمل أبعادا نفسية متعددة، فمن هذه المنطقة العالية بالمصعد، ودون أن يتحرك حركة واحدة، سوى داخل هذا المكان الضيق البعيد، استطاع نديم الوصول، بأدائه المتميز وصوته المعبر، لقلوب الجمهور، وكان حاضرا بتمثيله وأدائه، حتى فى لحظات انصراف الدراما عنه، فإذا التفت تجاهه فى هذا التوقيت، ستجده يحيا فى ملكوته الخاص بالمصعد، ففى هذا العرض دخل نديم وكريم معا فى مباراة تمثيلية، وكان من الصعب التفريق بينهما، فكلاهما كانا الأفضل، وكذلك سارة مجدى زوجة الرجل المعلق، التى تتمتع دائما بحضور طاغيًا، وروح خفيفة على المسرح، وفى مستقبل قريب قد يشكل هؤلاء الثلاثة، فريق عمل أشبه بثلاثى أضواء المسرح، كما ظهر احترافهم فى التعامل مع عيوب المسرح، عندما بدأت أزمة الصوت مع بدء أحداث العرض، فلم يكن الحوار فى أغلب الوقت مسموعا، خاصة حوارات بعض الموظفين والحلاق والجمعية الزراعية، لكن استطاع كريم ونديم وسارة وعبد العزيز حسين بمهارة المحترفين، التغلب على هذه الأزمة، بتوضيح مخارج ألفاظهم، ورفع الصوت فى مناطق معينة، من المتميزين أيضا كانت غادة زكى السيدة الحامل، وربة المنزل نهى النعيمى، ومحمد ماضى صاحبه المخادع الذى سنكتشف فى النهاية أنه هو نفسه رئيس المصلحة، والموظف رقم 2 إبراهيم الزقلة ومحمود خالد، أما مفاجأة العرض فكان عبد العزيز حسين الذى استطاع انتزاع الضحك من الجمهور بأدئه الكوميدى الساخر والمتميز، شارك فى بطولة «السلم والثعبان» من طلبة الجامعة كل من حلاق المزرعة عمر أسامة، كاتب المزرعة أحمد حيدر، الفلاح عبدالعاطى مجدى، أحمد صالح، دينا التركى، مى سويلم، نورهان عشوش، نوران أمين، هند جمال ميار مدحت، اسراء حسين، هاجر شيخون، أحمد شرف مؤمن حجى، محمد حسين، رانا عبد الرحيم، ديانا رشاد، أحمد عماد، إبراهيم سعيد، أحمد أشرف، عمر حمدى، محمد ياسر، محمد بندق، أمير نجيب، إعداد وأشعار دكتور مصطفى سليم، رؤية وإخراج خالد جلال مخرج منفذ علا فهمى. وأخيرا وليس آخرا، من المهم أن تلتفت وتحاكى الجامعات هذا المشروع الفنى الضخم، الذى تقدمه جامعة المستقبل، فأصبحت هذه الجامعة، نموذج يحتذى به فى الاستعانة بفنانين محترفين بكل المجالات للتدريب والنهوض بمهارات الطلاب الفنية، ويبدو أن هذا المكان لديه مشروع كبير لإعداد الطلاب بشكل مهارى، وبدلا من أن تهاجم الجامعة، لأنها تخصص أموالها لامتاع وتعليم طلابها الغناء والرقص والتمثيل والفن التشكيلى على يد مهاريين ومحترفين من نجوم الصف الأول فى هذه المجالات، كان من الأولى أن نشجع هذا المنطق فى الإدارة التعليمية للجامعات، فإذا اتبعت الجامعات الحكومية نفس نهج هذه الجامعة قد تحدث طفرة فنية فى الأجيال القادمة، بدلا من أن تساهم فى تخريج متطرفين، بمحاربة صناعة المسرح بها، قد تنجح فى إفراز عدد كبير من الفنانين والمثقفين، على غرار المقولة الشهيرة .. «ادخلوا الفنون من أبواب المدارس والجامعات.. يخرج التطرف من نوافذها».