الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

صباح الدلع!




كل سنة وانت طيب‮..‬ورمضان كريم‮.‬

قابلت مصريين مختلفين في واشنطن‮. ‬كل منهم راض بحاله‮.. ‬أو علي الاقل هكذا‮ ‬يبدو‮.. ‬وإذا ما ناقشته في شئونه وكيف‮ ‬يعيش كان أن قاد الحديث معك إلي مصر وأحوالها‮.. ‬بدلاً‮ ‬من أن‮ ‬يكمل معك الحوار في أحواله الأمريكية‮.‬

أدهشتني هذه الظاهرة‮. ‬وحاولت أن أجد لها تفسيراً‮. ‬فقلت لعل الحنين‮ ‬غلاب‮.. ‬أي أن اشتياقهم إلي البلد هو الذي‮ ‬يجعلهم‮ ‬يصرون علي اجترار أحواله‮. ‬أو لعل لديهم رغبة أكيدة في أن‮ ‬يثبتوا لأنفسهم أنهم كانوا علي حق حين هاجروا إلي الولايات المتحدة‮.. ‬أو أنهم ـ ربما ـ‮ ‬يهربون من احساس بالفشل‮.. ‬لأن ما تحقق لايساوي ما كانوا‮ ‬يحلمون به‮.‬

لم أصل إلي تفسير‮ ‬يمكن أن‮ ‬ينفي‮ ‬غيره‮. ‬لكن مالفت نظري أيضا هو أنك حين تتعامل مع المصري الذي تصادفه في واشنطن تجده‮ ‬يستعيد خبراته المصرية‮.. ‬كما لو أنه في قلب شبرا‮.. ‬ثم وأنت في هذه الحالة إذا ماواجه التزاما أمريكيا فإنه‮ ‬يتحول في لحظة إلي خاضع أمريكي‮.. ‬ينفذ بالحرف ما‮ ‬يقوله القانون‮.‬

نعم أقول‮ (‬خاضع‮).. ‬ولم أقل‮ (‬مواطن‮).. ‬القانون في الولايات المتحدة‮ ‬يقتضي الالتزام إلي درجة الخضوع‮.. ‬كما لو انك عبد‮.. ‬وكما لو أنه ديكتاتور‮.. ‬لايفترض بك النقاش أو الجدل أو الالتفاف‮.. ‬وتلك هي عبقريته في أن‮ ‬يحفظ لهذا المجتمع الشديد التنوع وحدته وتماسكه فلا‮ ‬ينفرط عقده‮.‬

فهل تكون هذه الحالة هي تفسير ماصادفت؟ ربما‮.. ‬إذ أعتقد أن المواطن المصري‮ ‬يريد بإصراره الحديث عن مصر والانشغال بشئونها رغم أنه أصبح مواطنا أمريكيا أن‮ ‬يستعيد ما كان‮ ‬يتمتع به من حرية في بلده‮.. ‬من أريحية‮.. ‬من عدم تضييق‮.. ‬مقارنة بما‮ ‬يفرضه عليه القانون في الولايات المتحدة‮.‬

أمريكا بلد حر‮. ‬هذه حقيقة.ديمقراطيته كما‮ ‬يقول الكتاب‮. ‬لكن قانونه المنظم لتلك الحرية والديمقراطية لايمكن أن تمس بنوده ولو علي سبيل الغفلة أو النسيان‮. ‬لاتستطيع أن تتجاهل أن تربط حزام السيارة‮.. ‬أو أن تضعها في عرض الطريق‮.. ‬أو أن تعبر الطريق في وقت لم تجزه الشارة الخضراء‮.. ‬أو تؤخر قسط البيت أو السيارة‮.. ‬أو أن تتكلم في شئون عقيدة‮ ‬غيرك‮.. ‬أو‮.. ‬أو‮.. ‬

نحن هنا لدينا قانون‮.. ‬لكنه رحيم‮.. ‬ويقبل في أحيان كثيرة ليس فقط الفساد‮.. ‬وإنما أيضا حيل الفهلوة‮.. ‬وانفلاتات الدلع‮.. ‬والتراخي‮.. ‬ومن ثم فإن المصري حين‮ ‬يسافر إلي هناك‮.. ‬أو إلي أي دولة من هذا النوع الذي‮ ‬يطبق القانون بحذافيره‮.. ‬فإنه‮ ‬يصبح كائنا آخر‮.. ‬لكن في داخله حنيناً‮ ‬إلي حالة الفوضي‮.. ‬ومناطحة الحكومة بأفعال صغيرة‮.. ‬وقبولها منه هذه الأمور‮..‬وترضيتها له‮..‬وسكوتها عنه‮.‬

هناك صادفت مصريين مسلمين وأقباطاً‮.. ‬ليس فيهم من‮ ‬يكلمك عن دينه في الولايات المتحدة وإنما عن دينه في مصر‮.. ‬وقلت لعل حياتهم العقيدية متسقة تماما مع ما‮ ‬يريدون‮.. ‬هل مثلا عدد الكنائس‮ ‬يكفي المسيحيين في واشنطن‮.. ‬هل عدد المساجد‮ ‬يكفي المسلمين ؟‮..‬لا هذه صحيحة ولا تلك‮.. ‬لكن لا‮ ‬يوجد صراخ بهذا الشأن‮.. ‬وإنما تجد من‮ ‬يقول لك‮ : ‬لا توجد مشكلة‮.. ‬الحكومة الأمريكية لا تمنعنا‮.. ‬لكن علينا الالتزام بشروط القانون‮.‬

مثلا أي دار عبادة لابد لها من أن توفر أماكن انتظار سيارات للمصلين‮. ‬ولابد أن‮ ‬يكون لها أكثر من مدخل لتوفير عناصر الأمان‮.. ‬وتوفير مرتبات العاملين من ميزانية ثابتة‮.. ‬والخضوع لمعايير وشروط البناء‮.. ‬وهي كثيرة جداً‮.. ‬فهل هذا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يحدث في مصر‮.. ‬هل‮ ‬يمكن أن تشترط علي كنيسة أن توفر أماكن انتظار لسيارات المصلين‮.. ‬وهل‮ ‬يمكن أن تطلب من بناة مسجد أن‮ ‬يوفروا أجر مقيمي شعائره بدلا من أن‮ ‬يبنوه ثم‮ ‬يتركوه عبئا مالياً‮ ‬علي الدولة؟

‮ ‬أهم ما في الولايات المتحدة ليس هو رخاءها ورفاهيتها وحريتها‮.. ‬أهم مافيها أن نظامها حقيقي‮.. ‬ويقتضي من الجميع الخضوع‮.. ‬حتي لو كان بعض الناس‮ ‬يريدون أن‮ ‬يمارسوا الفوضي في مصر من هناك‮.. ‬وباستخدام الديمقراطية الأمريكية التي لو طبقت عليهم هنا مانطقوا حرفاً‮.‬
www.abkamal.net
[email protected]