صباح الدلع!
عبد الله كمال
كل سنة وانت طيب..ورمضان كريم.
قابلت مصريين مختلفين في واشنطن. كل منهم راض بحاله.. أو علي الاقل هكذا يبدو.. وإذا ما ناقشته في شئونه وكيف يعيش كان أن قاد الحديث معك إلي مصر وأحوالها.. بدلاً من أن يكمل معك الحوار في أحواله الأمريكية.
أدهشتني هذه الظاهرة. وحاولت أن أجد لها تفسيراً. فقلت لعل الحنين غلاب.. أي أن اشتياقهم إلي البلد هو الذي يجعلهم يصرون علي اجترار أحواله. أو لعل لديهم رغبة أكيدة في أن يثبتوا لأنفسهم أنهم كانوا علي حق حين هاجروا إلي الولايات المتحدة.. أو أنهم ـ ربما ـ يهربون من احساس بالفشل.. لأن ما تحقق لايساوي ما كانوا يحلمون به.
لم أصل إلي تفسير يمكن أن ينفي غيره. لكن مالفت نظري أيضا هو أنك حين تتعامل مع المصري الذي تصادفه في واشنطن تجده يستعيد خبراته المصرية.. كما لو أنه في قلب شبرا.. ثم وأنت في هذه الحالة إذا ماواجه التزاما أمريكيا فإنه يتحول في لحظة إلي خاضع أمريكي.. ينفذ بالحرف ما يقوله القانون.
نعم أقول (خاضع).. ولم أقل (مواطن).. القانون في الولايات المتحدة يقتضي الالتزام إلي درجة الخضوع.. كما لو انك عبد.. وكما لو أنه ديكتاتور.. لايفترض بك النقاش أو الجدل أو الالتفاف.. وتلك هي عبقريته في أن يحفظ لهذا المجتمع الشديد التنوع وحدته وتماسكه فلا ينفرط عقده.
فهل تكون هذه الحالة هي تفسير ماصادفت؟ ربما.. إذ أعتقد أن المواطن المصري يريد بإصراره الحديث عن مصر والانشغال بشئونها رغم أنه أصبح مواطنا أمريكيا أن يستعيد ما كان يتمتع به من حرية في بلده.. من أريحية.. من عدم تضييق.. مقارنة بما يفرضه عليه القانون في الولايات المتحدة.
أمريكا بلد حر. هذه حقيقة.ديمقراطيته كما يقول الكتاب. لكن قانونه المنظم لتلك الحرية والديمقراطية لايمكن أن تمس بنوده ولو علي سبيل الغفلة أو النسيان. لاتستطيع أن تتجاهل أن تربط حزام السيارة.. أو أن تضعها في عرض الطريق.. أو أن تعبر الطريق في وقت لم تجزه الشارة الخضراء.. أو تؤخر قسط البيت أو السيارة.. أو أن تتكلم في شئون عقيدة غيرك.. أو.. أو..
نحن هنا لدينا قانون.. لكنه رحيم.. ويقبل في أحيان كثيرة ليس فقط الفساد.. وإنما أيضا حيل الفهلوة.. وانفلاتات الدلع.. والتراخي.. ومن ثم فإن المصري حين يسافر إلي هناك.. أو إلي أي دولة من هذا النوع الذي يطبق القانون بحذافيره.. فإنه يصبح كائنا آخر.. لكن في داخله حنيناً إلي حالة الفوضي.. ومناطحة الحكومة بأفعال صغيرة.. وقبولها منه هذه الأمور..وترضيتها له..وسكوتها عنه.
هناك صادفت مصريين مسلمين وأقباطاً.. ليس فيهم من يكلمك عن دينه في الولايات المتحدة وإنما عن دينه في مصر.. وقلت لعل حياتهم العقيدية متسقة تماما مع ما يريدون.. هل مثلا عدد الكنائس يكفي المسيحيين في واشنطن.. هل عدد المساجد يكفي المسلمين ؟..لا هذه صحيحة ولا تلك.. لكن لا يوجد صراخ بهذا الشأن.. وإنما تجد من يقول لك : لا توجد مشكلة.. الحكومة الأمريكية لا تمنعنا.. لكن علينا الالتزام بشروط القانون.
مثلا أي دار عبادة لابد لها من أن توفر أماكن انتظار سيارات للمصلين. ولابد أن يكون لها أكثر من مدخل لتوفير عناصر الأمان.. وتوفير مرتبات العاملين من ميزانية ثابتة.. والخضوع لمعايير وشروط البناء.. وهي كثيرة جداً.. فهل هذا يمكن أن يحدث في مصر.. هل يمكن أن تشترط علي كنيسة أن توفر أماكن انتظار لسيارات المصلين.. وهل يمكن أن تطلب من بناة مسجد أن يوفروا أجر مقيمي شعائره بدلا من أن يبنوه ثم يتركوه عبئا مالياً علي الدولة؟
أهم ما في الولايات المتحدة ليس هو رخاءها ورفاهيتها وحريتها.. أهم مافيها أن نظامها حقيقي.. ويقتضي من الجميع الخضوع.. حتي لو كان بعض الناس يريدون أن يمارسوا الفوضي في مصر من هناك.. وباستخدام الديمقراطية الأمريكية التي لو طبقت عليهم هنا مانطقوا حرفاً.
www.abkamal.net
[email protected]