محمود عوض
عبد الله كمال
مات محمود عوض بالطريقة التي خشيناها جميعًا.. وتوقعناها جميعا.. وتجاهل احتمالها هو.. ووقع الأمر المؤلم.. فالموت وحده لم يكن الحدث الحزين.. ولكن ملابساته أيضًا.
يقول الطبيب أنه قد يكون مات الأربعاء.. لكنه مات يوم الجمعة وفق تقدير الزملاء الذين اكتشفوا أنه رحل.. ورأوه متوفي وحيدا في مدخل بيته قادمًا من الحمام.. بعد أن اضطروا لاستدعاء الشرطة وكسر باب شقته المطلة علي كوبري الجامعة.. بجانب السفارة الإسرائيلية.. إذ تبين لهم بعد توالي الاتصال به دون رد.. أنه لم يطالع صحفه منذ يومين.. وهو أمر دعاهم للاسترابة والقلق. ما أدي إلي طلب البوليس.. وكان ما كان.. وأبلغني أحدهم بعد فجر أمس.. فبدأت يومًا رمضانيا صعبًا بخبر فظيع.. رحمه الله.
أنا مدين لهذا الرجل.. الأستاذ الفاضل.. علمني.. واقتربت منه.. واستفدت من خبرته.. رغم أن تواصلي معه كان متقطعًا منذ تعرفت إليه في بداية عام 1986.. أي قبل 23 عامًا.. وقتها كان قد أصبح رئيسًا لتحرير جريدة الأحرار.. ووصل ـ لا أعرف كيف ـ لصيغة مكنته من إقناع المرحوم مصطفي كامل مراد.. رئيس الحزب الذي يصدر الجريدة.. بأن تكون صحيفة موضوعية.. تصدر عن الحزب ولكن لا تغرق في تفاصيل خطابه ومشكلاته.. تقدم خدمة صحفية.. وتكتفي بأن تنشر أخبار الحزب في عمودين في صفحة رقم 2.
قاربته في هذه الفترة التي سرعان ما انتهت في حدود شهر أبريل.. بعد أن أصدر 12 عددًا.. وقفز بتوزيع الجريدة إلي فوق مائة ألف نسخة.. ولاحقه التطرف ممثلاً في الشيخ الراحل صلاح أبوإسماعيل.. وانتهت الصيغة الهشة التي ابتدعها مع الحزب.. ولم يتحملها مصطفي كامل مراد.. ولكنه كان قد دفعني مهنيًا كثيرًا للأمام.. قرر لي بابا إخباريًا للشباب والجامعات وكنت لم أزل طالبا في السنة الثالثة في كلية الإعلام.. وعلمني كيف أكتب تحقيقًا متكاملاً.. وكيف أوظف أسلوبي.. وكيف يمكن أن أضيف إلي محرر يعمل معي.. ولا أنازعه المجد فيما أضفت إليه.
عشت معه في تلك الفترة لحظة عصيبة في تاريخ مصر.. خلال أحداث الأمن المركزي في مارس 1986.. وتعلمت منه كيف يمكن أن أنسج تقريرًا إخباريًا مطولاً.. يهتم بأدق التفاصيل.. ويمر بجريدة أسبوعية من جميع مآزق التحديات التي تفرضها عليه الجرائد اليومية. وكان الخطاب الذي أعطاني إياه هو الذي مكنني من أن أري مصر تحت حظر التجول.. وأعرف كيف يمكن أن أتعامل مع ذلك صحفيًا.
وبغض النظر عما استفدت منه.. فإنه كان كاتبًا كبيرًا وصحفيًا تشرأب له أعناق الشباب لأسباب لا يمكن حصرها.. لكن علي الأقل كان فيها أنه كان يتواصل معهم بإصرار.. ويحاورهم باحترام.. ويناقشهم بعمق.. ويعاملهم بأخوة.. حتي ظن الجميع أنهم أصدقاؤه.. لكنه عمليًا رحل دون أن يكاشف أحدًا أسراره.. وبدون أن يفاتح أحدًا في خفايا مسيرته.
كاد محمود عوض أن يبلغ السبعين.. دون أن يحقق حلمه الأهم وهو أن يصبح رئيسًا لتحرير أخبار اليوم.. التي تقاعد فيها وهو نائب لرئيس التحرير.. وأعتقد أنه ظل يتمني حتي اللحظة الأخيرة ـ أن يعود إلي كتابة مقال فيها.. ولكنه عوضا عن هذا كان يكتب في جريدتي الحياة اللندنية واليوم السابع الأسبوعية.
وقد كان من القلائل الذين يمكن وصفهم بأنهم كتاب سياسيون.. محلل عميق.. لديه رؤية استراتيجية وتدعمه قراءات واسعة واطلاعات عميقة.. ولا تأسره ايديولوجيته.. فقد كان محبًا لعبدالناصر يذكر الناصرية كبرنامج سياسي.. قوميا متمسكا بحلم العروبة دون طنطنة.. متابعًا حقيقيًا للعلاقة العربية ـ الإسرائيلية.. التي أصدر بخصوصها كتابًا عظيمًا اسمه (عليكم السلام).. ظل مرجعًا لمفاوضات وخلفيات السلام المصري الإسرائيلي.. في ضوء مواقفه. كان في محمود عوض بعض من مصطفي أمين.. وإن اختلف معه.. وكثير من ملامح أحمد بهاء الدين.. وكان قريبًا منه.. والأكثر من روح إحسان عبدالقدوس.. الذي أعطاه الكثير من الدفعات في مقتبل شبابه في أخبار اليوم.. ولكنه اختلف مع الكثيرين في مدرسة الأخبار وأبرزهم بالطبع الكاتب الراحل الذي احترمه كثيرًا الأستاذ موسي صبري.
ظل أستاذي الراحل يصدر كتبًا منوعة في السنوات الأخيرة، تجمع كثيرًا من مقالاته المتناثرة في صحف متنوعة، ومنها مجلة الشباب بالأهرام، ومجلة أكتوبر، وبعضها في مجلة روزاليوسف، ولكن أهم كتبه علي الإطلاق تلك التي أصدرها كبورتريهات شخصية غير مسبوقة لكل من قطبي الثقافة المصرية أم كلثوم وعبدالوهاب.. وله في ذلك كتابان صغيران.. أم كلثوم التي لا يعرفها أحد.. وعبدالوهاب الذي لا يعرفه أحد.. لكن أهم من هذا كتابه الأهم والأخطر: أفكار ضد الرصاص.. وفيه دوَّن مسيرة كبار التنويريين المصريين في رحلتهم في مواجهة التطرف.. وعلي رأسهم المفكر العظيم الراحل الدكتور طه حسين.
في هذه الكتب يمكن أن تجد ملامح أسلوبه الرائع.. وسلاسة كلماته.. ورشاقة قلمه.. وعمق نظرته.. وقدرته علي بناء الصورة.. وروح الفن التي تخالجه.. فقد كان رحمه الله فنانًا.. كتب للإذاعة.. وأحب السينما.. ولعل ذلك ما كان يؤنسه في وحدته الاختيارية.
في السنتين الأخيرتين اهتم وزير الخارجية أحمد أبوالغيط بأن يستمع إليه.. وأن يتناقشا سويا.. بعد أن قرأ مقالاته في جريدة الحياة.. وقد أهداه الوزير كتبًا مختلفة اشتراها من الخارج.. وحضرت معهما ليس أقل من ثلاث دعوات علي الغداء.. فنعمت بنقاشات ثرية.. وحوارات متعمقة.. اختلفت فيها الرؤي كثيراً.
رحم الله هذا الصحفي الكبير الراحل.. وغفر له.. أنعيه أستاذا فاضلاً.. ومعلمًا قديرًا.. متمنيا له أن يبقي قيد الذكر.. فقد مات بلا خلف.. لم يتزوج ولم ينجب.. وإن كان تلاميذه ومحبوه في كل مكان.. ومعجبوه كثر.. لكن هذا كله لم يعنه علي أن يجتاز لحظة الموت القاسية برفقة شريك أو صديق.. فمات وحيدًا.. إلي أن اكتشف تلاميذه هذا.
الموقع الإليكتروني: ten.lamakba.www
البريد الإليكتروني: ten.lamakba@kba