الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

محمود عوض




مات محمود عوض بالطريقة التي خشيناها جميعًا‮.. ‬وتوقعناها جميعا‮.. ‬وتجاهل احتمالها هو‮.. ‬ووقع الأمر المؤلم‮.. ‬فالموت وحده لم‮ ‬يكن الحدث الحزين‮.. ‬ولكن ملابساته أيضًا‮.‬

يقول الطبيب أنه قد‮ ‬يكون مات الأربعاء‮.. ‬لكنه مات‮ ‬يوم الجمعة وفق تقدير الزملاء الذين اكتشفوا أنه رحل‮.. ‬ورأوه متوفي وحيدا في مدخل بيته قادمًا من الحمام‮.. ‬بعد أن اضطروا لاستدعاء الشرطة وكسر باب شقته المطلة علي كوبري الجامعة‮.. ‬بجانب السفارة الإسرائيلية‮.. ‬إذ تبين لهم بعد توالي الاتصال به دون رد‮.. ‬أنه لم‮ ‬يطالع صحفه منذ‮ ‬يومين‮.. ‬وهو أمر دعاهم للاسترابة والقلق‮. ‬ما أدي إلي طلب البوليس‮.. ‬وكان ما كان‮.. ‬وأبلغني أحدهم بعد فجر أمس‮.. ‬فبدأت‮ ‬يومًا رمضانيا صعبًا بخبر فظيع‮.. ‬رحمه الله‮.‬

أنا مدين لهذا الرجل‮.. ‬الأستاذ الفاضل‮.. ‬علمني‮.. ‬واقتربت منه‮.. ‬واستفدت من خبرته‮.. ‬رغم أن تواصلي معه كان متقطعًا منذ تعرفت إليه في بداية عام‮ ‬1986‭.‬‮. ‬أي قبل‮ ‬23‮ ‬عامًا‮.. ‬وقتها كان قد أصبح رئيسًا لتحرير جريدة الأحرار‮.. ‬ووصل ـ لا أعرف كيف ـ لصيغة مكنته من إقناع المرحوم مصطفي كامل مراد‮.. ‬رئيس الحزب الذي‮ ‬يصدر الجريدة‮.. ‬بأن تكون صحيفة موضوعية‮.. ‬تصدر عن الحزب ولكن لا تغرق في تفاصيل خطابه ومشكلاته‮.. ‬تقدم خدمة صحفية‮.. ‬وتكتفي بأن تنشر أخبار الحزب في عمودين في صفحة رقم‮ ‬2‭.‬

قاربته في هذه الفترة التي سرعان ما انتهت في حدود شهر أبريل‮.. ‬بعد أن أصدر‮ ‬12‮ ‬عددًا‮.. ‬وقفز بتوزيع الجريدة إلي فوق مائة ألف نسخة‮.. ‬ولاحقه التطرف ممثلاً‮ ‬في الشيخ الراحل صلاح أبوإسماعيل‮.. ‬وانتهت الصيغة الهشة التي ابتدعها مع الحزب‮.. ‬ولم‮ ‬يتحملها مصطفي كامل مراد‮.. ‬ولكنه كان قد دفعني مهنيًا كثيرًا للأمام‮.. ‬قرر لي بابا إخباريًا للشباب والجامعات وكنت لم أزل طالبا في السنة الثالثة في كلية الإعلام‮.. ‬وعلمني كيف أكتب تحقيقًا متكاملاً‮.. ‬وكيف أوظف أسلوبي‮.. ‬وكيف‮ ‬يمكن أن أضيف إلي محرر‮ ‬يعمل معي‮.. ‬ولا أنازعه المجد فيما أضفت إليه‮.‬

عشت معه في تلك الفترة لحظة عصيبة في تاريخ مصر‮.. ‬خلال أحداث الأمن المركزي في مارس‮ ‬1986‭.‬‮. ‬وتعلمت منه كيف‮ ‬يمكن أن أنسج تقريرًا إخباريًا مطولاً‮.. ‬يهتم بأدق التفاصيل‮.. ‬ويمر بجريدة أسبوعية من جميع مآزق التحديات التي تفرضها عليه الجرائد اليومية‮. ‬وكان الخطاب الذي أعطاني إياه هو الذي مكنني من أن أري مصر تحت حظر التجول‮.. ‬وأعرف كيف‮ ‬يمكن أن أتعامل مع ذلك صحفيًا‮.‬

وبغض النظر عما استفدت منه‮.. ‬فإنه كان كاتبًا كبيرًا وصحفيًا تشرأب له أعناق الشباب لأسباب لا‮ ‬يمكن حصرها‮.. ‬لكن علي الأقل كان فيها أنه كان‮ ‬يتواصل معهم بإصرار‮.. ‬ويحاورهم باحترام‮.. ‬ويناقشهم بعمق‮.. ‬ويعاملهم بأخوة‮.. ‬حتي‮ ‬ظن الجميع أنهم أصدقاؤه‮.. ‬لكنه عمليًا رحل دون أن‮ ‬يكاشف أحدًا أسراره‮.. ‬وبدون أن‮ ‬يفاتح أحدًا في خفايا مسيرته‮.‬

كاد محمود عوض أن‮ ‬يبلغ‮ ‬السبعين‮.. ‬دون أن‮ ‬يحقق حلمه الأهم وهو أن‮ ‬يصبح رئيسًا لتحرير‮ ‬أخبار اليوم‮.. ‬التي تقاعد فيها وهو نائب لرئيس التحرير‮.. ‬وأعتقد أنه ظل‮ ‬يتمني حتي اللحظة الأخيرة ـ أن‮ ‬يعود إلي كتابة مقال فيها‮.. ‬ولكنه عوضا عن هذا كان‮ ‬يكتب في جريدتي‮ ‬الحياة‮ ‬اللندنية واليوم السابع‮ ‬الأسبوعية‮.‬

وقد كان من القلائل الذين‮ ‬يمكن وصفهم بأنهم كتاب سياسيون‮.. ‬محلل عميق‮.. ‬لديه رؤية استراتيجية وتدعمه قراءات واسعة واطلاعات عميقة‮.. ‬ولا تأسره ايديولوجيته‮.. ‬فقد كان محبًا لعبدالناصر‮ ‬يذكر الناصرية كبرنامج سياسي‮.. ‬قوميا متمسكا بحلم العروبة دون طنطنة‮.. ‬متابعًا حقيقيًا للعلاقة العربية ـ الإسرائيلية‮.. ‬التي أصدر بخصوصها كتابًا عظيمًا اسمه‮ (‬عليكم السلام‮).. ‬ظل مرجعًا لمفاوضات وخلفيات السلام المصري الإسرائيلي‮.. ‬في ضوء مواقفه‮.‬ كان في محمود عوض بعض من مصطفي أمين‮.. ‬وإن اختلف معه‮.. ‬وكثير من ملامح أحمد بهاء الدين‮.. ‬وكان قريبًا منه‮.. ‬والأكثر من روح إحسان عبدالقدوس‮.. ‬الذي أعطاه الكثير من الدفعات في مقتبل شبابه في‮ ‬أخبار اليوم‮.. ‬ولكنه اختلف مع الكثيرين في مدرسة الأخبار وأبرزهم بالطبع الكاتب الراحل الذي احترمه كثيرًا الأستاذ موسي صبري‮.‬

ظل أستاذي الراحل يصدر كتبًا منوعة في السنوات الأخيرة،‮ ‬تجمع كثيرًا من مقالاته المتناثرة في صحف متنوعة،‮ ‬ومنها مجلة الشباب بالأهرام،‮ ‬ومجلة أكتوبر،‮ ‬وبعضها في مجلة‮ ‬روزاليوسف‮‬،‮ ‬ولكن أهم كتبه علي الإطلاق تلك التي أصدرها كبورتريهات شخصية‮ ‬غير مسبوقة لكل من قطبي الثقافة المصرية أم كلثوم وعبدالوهاب‮.. ‬وله في ذلك كتابان صغيران‮.. ‬أم كلثوم التي لا يعرفها أحد‮.. ‬وعبدالوهاب الذي لا يعرفه أحد‮.. ‬لكن أهم من هذا كتابه الأهم والأخطر‮: ‬أفكار ضد الرصاص‮.. ‬وفيه دوَّن مسيرة كبار التنويريين المصريين في رحلتهم في مواجهة التطرف‮.. ‬وعلي رأسهم المفكر العظيم الراحل الدكتور طه حسين‮.‬

‮ ‬في هذه الكتب يمكن أن تجد ملامح أسلوبه الرائع‮.. ‬وسلاسة كلماته‮.. ‬ورشاقة قلمه‮.. ‬وعمق نظرته‮.. ‬وقدرته علي بناء الصورة‮.. ‬وروح الفن التي تخالجه‮.. ‬فقد كان رحمه الله فنانًا‮.. ‬كتب للإذاعة‮.. ‬وأحب السينما‮.. ‬ولعل ذلك ما كان يؤنسه في وحدته الاختيارية‮.‬

‮ ‬في‮ ‬السنتين الأخيرتين اهتم وزير الخارجية أحمد أبوالغيط بأن يستمع إليه‮.. ‬وأن يتناقشا سويا‮.. ‬بعد أن قرأ مقالاته في جريدة‮ ‬الحياة‮.. ‬وقد أهداه الوزير كتبًا مختلفة اشتراها من الخارج‮.. ‬وحضرت معهما ليس أقل من ثلاث دعوات علي الغداء‮.. ‬فنعمت بنقاشات ثرية‮.. ‬وحوارات متعمقة‮.. ‬اختلفت فيها الرؤي كثيراً‮.‬

‮ ‬رحم الله هذا الصحفي الكبير الراحل‮.. ‬وغفر له‮.. ‬أنعيه أستاذا فاضلاً‮.. ‬ومعلمًا قديرًا‮.. ‬متمنيا له أن يبقي قيد الذكر‮.. ‬فقد مات بلا خلف‮.. ‬لم يتزوج ولم ينجب‮.. ‬وإن كان تلاميذه ومحبوه في كل مكان‮.. ‬ومعجبوه كثر‮.. ‬لكن هذا كله لم يعنه علي أن يجتاز لحظة الموت القاسية برفقة شريك أو صديق‮.. ‬فمات وحيدًا‮.. ‬إلي أن اكتشف تلاميذه هذا‮.‬
 الموقع الإليكتروني‮: ten.lamakba.www
‬ البريد الإليكتروني‮: ten.lamakba@kba‬