«الرمادى».. يليق بك على مسرح الهناجر!!
هند سلامة
عادة ما يكون من الصعب تحويل الأعمال الروائية إلى عروض مسرحية جيدة الصنع، خاصة إذا كان هذا العمل الروائى قد نال إعجاب الكثيرين سواء عالميا أو محليا، وبما أن رواية 1984، انتشرت انتشارا كبيرا عبر أنحاء العالم، وليس انتشارا عاديا بل أثرت فى الكثيرين، وأقيمت فى مصر ضجة حولها خلال فترة من الفترات، لما تحمله من أفكار ثورية وسياسية جريئة، واليوم اختارت المخرجة عبير على تقديم هذا العمل الأدبى المهم والمثير للجدل فى عرض مسرحى على خشبة الهناجر بعنوان «الرمادى».
تكمن صعوبة تحويل العمل الأدبى، فى اختزال رواية تحمل تفاصيل عديدة فى ثلاثمائية صفحة، فى عرض مدته ساعة واحدة، بجانب صعوبة الاقتحام والسيطرة على خيال قارئ الرواية لأن الروايات بما تحمله من تفاصيل دقيقة وأحداث شيقة، قد تكون أمتع وتفتح مجالاً أرحب لخيال قارئها، لكن حينما يقوم صناع الأعمال الفنية بصياغتها فى فيلم سينمائى أو مسرحية للتوجيه والسيطرة على خيال قراء الرواية قد يبغضونها أحيانا، لاحتفاظ العمل الأدبى دائما بخصوصيته، لكن فى «الرمادى» نجحت المخرجة عبير على وأعضاء فرقة المسحراتى فى اللعب على الصورة المسرحية بشكل كبير حتى أن العرض بدا وكأنه يحاكى الفيلم السينمائى المأخوذ عن الرواية بنفس الاسم «1984»، فالصورة خرجت سينمائية للغاية.
كتب جورج أورويل روايته بعد الخراب الذى لحق بالعالم على أثر الحرب العالمية الثانية، عام 1948 لكنه قرر كنوع من الرمزية والسخرية من أحداث واقعه، أن يجعلها وكأنها مجرد تنبؤات قد تقع فى المستقبل عام 1984، وهو ما يوحى بمدى سخرية المؤلف واستهزائه بالواقع الذى عاشه وقتها فى بريطانيا خلال هذه الفترة، واتضحت هذه السخرية والتهكم الشديد ضمن أحداث الرواية من خلال تسمية وزارات دولة أوشينيا، وزارة السلام المسئولة فعليا عن الحرب، وزارة الوفرة المسئولة عن تجويع الشعب، وزارة الحقيقة ومهمتها نشر الأكاذيب وتزييف التاريخ، وزارة الحب التعذيب، وزارة التفكير المزدوج، من خلال هذا التقسيم الساخر لمهام الوزارات، جسد أورويل الشكل الحقيقى والمجرد للطاغية فى روايته، والذى جاء وصفه دائما بـ«الأخ الكبير»، الذى يحكم دولة أوشينيا والتى فرض على مواطنيها كل أشكال الخضوع والعبودية حتى فى ملابسهم التى جردت من أى ألوان أو اختلاف يذكر فالجميع يرتدى زيا واحدا بلون موحد للنساء والرجال، وممنوع شرب القهوة وأكل المربى، وممارسة الجنس، والقيام بكل شىء يؤدى إلى المتعة والشعور بالحياة، تفنن أورويل فى نزع قيم الحرية والحياة من هذه المدينة القاتمة، يعمل بطل الرواية وينستون فى وزارة الحقيقة وعليه تزييف التاريخ بكتابة وقائع مزيفة، ومحو مصادر الوقائع الحقيقية، تمجيدا لـ«الأخ الكبير»، وأثناء كتابته لهذا التاريخ كان يحتفظ بمفكرة صغيرة يسجل فيها أفكاره الثورية، التى تراوده من حين لآخر، لكنه يخشى دائما من أن يكتشف أحد هذه المفكرة ويفضح سره، كى لا يعاقب بتهمة جريمة الفكر، هكذا تدور أحداث الرواية فى مدينة خالية من أى مظاهر للإنسانية، حتى عندما وقع فى حب جوليا أحد سكان هذه المدينة كان يمارس معها الحب سرا خوفا من شاشات التربص والمراقبة، التى تلازم المواطنين فى أدق تفاصيل حياتهم اليومية.
تستعرض الرواية أفكار كاتبها الثورية، أكثر من احتوائها على أحداث درامية، وكأنها مبالغة شديدة فى سرد لمعاناة الشعوب التى وقعت تحت وطأة الحكم الشمولى أو حكم الرجل الأوحد، وبالتالى كانت مباشرة فى رسالتها للغاية، وكذلك تناول الفيلم الأمريكى «1984» للمخرج مايكل ريدفورد، نفس أحداث الرواية مع اختصار الكثير من التفاصيل، وهكذا كانت أيضا مسرحية «الرمادى»، التى تشابهت كثيرا مع الفيلم السينمائى والرواية، حتى فى بعض المشاهد الحوارية وربما قد يكون هذا هو العيب الوحيد، فى الإعداد الدرامى، أن العرض المسرحى لم يتجاوز خيال الفيلم والرواية كثيرا، فارتدى أبطال العمل زيا بلون الرمادى فى إشارة للحياة الباهتة التى ليس لها قيمة أو معنى، وكذلك ارتدى الممثلون نفس «الباروكة» رجال ونساء، وهذه من أبرز الرموز التى احتوى عليها العمل، تحويل البشر إلى كائنات ممسوخة ومتشابهة، حتى تكاد لا تفرق بين رجال ونساء هذه المدينة، وكذلك كانت إضاءة العمل معبرة بشدة عن أجواء الكآبة والسأم التى يعانى منها سكان هذا المكان، وتجاوزت المخرجة باحتراف ومهارة أزمة المباشرة، بالأداء التمثيلى المطعم بالحكى والذى يعتمد عليه دائما فريق مختبر المسحراتى فى أعماله مما احتفظ للعمل بروحه المصرية، لأن فريق العمل جميعهم مدرب وبعناية على فن الحكى المسرحى، مما أضفى على العرض مذاقا مختلفا عن عروض المسرح التقليدية، لأن فريق مختبر المسحراتى أو «المسحراتية» يعملون بشكل جاد على إبراز التراث المصرى من خلال الفنون الحكى المختلفة، لذلك جاء أداء الجميع، وكأنهم يقدمون عملا تراثيا بروحه المصرية، بجانب الحالة السينمائية، التى سيطرت على العرض المسرحى، سواء فى استخدام كاميرات لتصوير مشاهد حية من العرض أو الجمهور، أو فى أداء الممثلين الهادئ البسيط الذى اعتمد على التعبير بالوجه كما لو أنهم أمام كاميرا سينما، وبالتالى وضعت عبير على بصمة خاصة فى تناول رواية أورويل مسرحيا، واستطاعت تجاوز أزمة المباشرة بالرواية، باستثناء المشهد الأخير الذى كان غير مبرر عندما خلع الجميع الملابس الرمادية مرتدين ألوانا زاهية، بحركات راقصة غير منظمة، كان هذا المشهد إمعانا فى المباشرة، وتوضيح رسالة العرض، الواضحة من البداية، فلم يكن هناك داع لختام العرض بهذه الطريقة لأنه لم يكن يحتمل إيضاحا أكثر مما جاء عليه.
كما سبق وذكرنا أن العرض لم يتجاوز فى خياله الفيلم الأجنبى أو العمل الأدبى، لم يتجاوز أيضا فى السينوغرافيا الصورة التى سبق ورسمها المخرج طارق الدويرى فى عرضه «الزومبى والخطايا العشر»، والذى اتخذ من نفس الرواية جزءا كبيرا فى إعداده المسرحى، فاعتمدت عبير على هنا، أيضا على الشاشة الأمامية فى استعراض حبس هؤلاء الأشخاص بهذا المكان الغريب عن العالم كما استعرضت بالكاميرات تصوير الجمهور وظهورهم على شاشة العرض فى البداية وفى منتصف الأحداث خاصة أثناء عزف النشيد الوطنى لدولة أوشينيا باعتباره مشاركا أساسيا فى العملية المسرحية، وجزءاً لا يتجزأ من أحداثها، وبالتالى لم يخرج التكنيك المستخدم فى تصميم السينوغرافيا البصرية، بالعرض عن العمل السابق، لذلك قد تتذكر وبشدة عرض الدويرى أثناء مشاهدتك للـ«رمادي»، على الرغم من أن السينوغرافيا صممت بشكل محكم وجيد للغاية إلا أن عيبها تزامن موعد العرضين معا، فى وقت قريب، ما أدى إلى تداخل العملين، فكان من الأولى وضع مدى زمنى كاف بين العرضين، لكن بخلاف هذه المشكلة قدم فريق المسحراتى عملاً مسرحياً جيداً محكم الصنع والصياغة الفنية سواء على مستوى التمثيل أو الأداء الحركى والدراماتورج، والمستوى البصرى.
جدير بالذكر أن عرض «الرمادى» كان نتاج جائزة عز الدين قنون التى حصلت عليها مؤخرا المخرجة عبير على بمهرجان أيام قرطاج المسرحية بتونس عن مجمل أعمالها الفنية، وقيمتها 10 آلاف دولار لإنتاج عرض مسرحى، وبالشراكة مع قطاع الإنتاج الثقافى تم إنتاج العرض، شارك فى بطولة «الرمادى»، محمد على حزين، دعاء حمزة وانجى جلال المذيعة وأحد مواطنى اوشينيا، وكل من دعاء شوقى، ميسون محفوظ، سهام بينت سنية وعبد السلام، محمد عبد المعز، ميسون محفوظ، جمعة محمد، حسن عزام، عزت زين، عبدالرحمن ناصر، محمود سليم، باسل محمد على، سما محمد على، سينوغرافيا وديكور هناء نصر وعبير على، فيديوغرافيا محمد أبو السعود، إعداد موسيقى وألحان محمد على، إضاءة محمد عبد المحسن.