الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
رمانة الميزان!
كتب

رمانة الميزان!




 


كرم جبر روزاليوسف الأسبوعية : 05 - 09 - 2009

"سيدي الرئيس كأنك تقرأ في كتاب مفتوح" .. هذه العبارة جاءت علي لسان "كونداليزا رايس"، وهي تجلس أمام الرئيس مبارك في إحدي زياراتها الأخيرة لمصر قبل أن ترحل مع غير المأسوف عليه "بوش".


الاعتراف بالذنب جاء بعد فوات الأوان وفي وقت لا ينفع فيه الندم، وكانت "كونداليزا" تشير إلي الدمار الكبير الذي حل بالعراق وشعبه نتيجة خطأ الحسابات الأمريكية في المنطقة، والذي دفعها لخطوات غير محسوبة أدت إلي تدمير العراق وقتل مئات الآلاف من أبناء شعبه ونهب ثرواته وتفجير نيران الإرهاب التي لا تنطفئ.
هل يستفيد أوباما من درس بوش، أم يلدغ من نفس الجحر الذي قاد المنطقة لأهوال كبيرة مازالت تدفع ثمنها حتي الآن؟ .. هل تأتي مبادرة السلام الأمريكية المنتظرة محققة للطموح العربي والفلسطيني أم مخيبة للآمال؟ .. هل تذوق المنطقة طعم الهدوء أم تدق طبول الحرب من جديد علي أنغام عمل عسكري إسرائيلي طائش ضد إيران ؟
غزة في انتظار الشتاء الرهيب
المسئول الأول عن الأهوال التي يتعرض لها سكان غزة مع قدوم الشتاء هو إسرائيل التي مازالت تعرقل بدء مفاوضات السلام، وترفض تقديم حوافز إيجابية للشعب الفلسطيني تساعد علي استقرار الأوضاع وإعطاء شحنة أمل في المستقبل، وتتمسك إسرائيل بأحلام شيطانية حول حوافز التطبيع لتقبض الثمن قبل أن تتحمل شيئاً من أجل السلام.
الشتاء الرهيب قادم والفلسطينيون يقاسون الأمرين بسبب الظروف المعيشية الصعبة، دون أن يُشيد مبني واحد يقيهم البرد، بجانب نقص الغذاء والمواد التموينية، ومليارات الإعمار مجمدة في انتظار الفرج.
الرؤية المصرية في هذا الصدد تعتمد علي عدة مرتكزات:
أولاً: أن إسرائيل تحتاج إلي السلام قبل العرب وكانت الفترة الذهبية لتحقيق السلام من سنة 69 إلي 9991 والذي أجهض ذلك هو "نتانياهو" حين كان رئيساً للوزراء في تلك الفترة ويعود الآن لرئاسة الحكومة الإسرائيلية .. والسلام من هذا المنظور ليس منحة للعرب، ولكنه مسألة حياة أو موت بالنسبة لإسرائيل قبل العرب.
ثانياً : أن المستقبل في صالح الشعب الفلسطيني في ظل الزيادة العددية الكبيرة وتراجع معدلات الزيادة السكانية لدي الإسرائيليين، وربما يأتي يوم تجد فيه إسرائيل نفسها غارقة في بحيرة الكثافة العربية ولن يحميها في ذلك الوقت إلا أن تكون قد أرست قواعد السلام مع جيرانها .
ثالثاً : يعتبر الوقت الراهن هو الأفضل لاستئناف مفاوضات السلام بحيث تبدأ من النقطة التي انتهت عندها المفاوضات السابقة .. فالوقت أصبح السيف المسلط علي رقبة السلام .
رابعاً : استثمار حماس الإدارة الأمريكية في دفع مفاوضات التسوية السلمية وتقديم مبادرات تضمن نجاح خطة السلام الأمريكية بعد الإعلان عنها في غضون الأسابيع الثلاثة القادمة .. وإذا لم تتضمن الخطة حوافز مشجعة فسوف تفقد عناصر النجاح.
المصالحة ضد مصالح "فتح" و"حماس"
يخطئ من يتصور أن المصالحة الفلسطينية هي في صالح "فتح" أو "حماس"، فالطرفان يبذلان قصاري جهدهما لإفساد الجهود الكبيرة التي تقوم بها مصر للتوصل إلي اتفاق للمصالحة، وكلما تقدما خطوة للأمام عادا خطوتين للخلف، ويتعمد كل طرف زرع العقبات والتحديات في وجه الطرف الآخر، وما يتم الاتفاق عليه في الغرف المغلقة يجري إجهاضه أمام شاشات الفضائيات .
"فتح" تعلم جيداً حجم المسئوليات التي ستلقي علي عاتقها إذا أسفرت الانتخابات التشريعية في يناير القادم عن توليها زمام الأمور في غزة، وتتجسد الصعوبات في الوضع العسكري والاقتصادي والسياسي الذي رتبته "حماس" إبان استيلائها علي السلطة عام 6002، وهي تعقيدات كبيرة ستجعل "فتح" تتورط في المستنقع الذي صنعته "حماس"، ولن يكون سهلاً تطويع الأجهزة الحكومية أو الأمنية، وكذلك فك التنظيمات الدينية والعسكرية، وإعادة ترتيب الأوضاع في القطاع.
وحماس بدورها لا تسعي للمصالحة، لأنها في غير صالحها وتحرمها من أوراق الضغط التي تلعب بها علي الأصعدة المحلية والأجنبية والدولية خصوصاً في ظل اعتراف الولايات المتحدة والغرب بضرورة إيجاد دور ما "لحماس" في التسوية القادمة وفي ظل الأموال الطائلة التي يتلقاها قادة "حماس" وتساعدهم في تمويل أنشطتهم والإنفاق علي رجالهم، وكل ذلك لن يكون متاحاً في حالة توحيد الأجهزة الحكومية وتشكيل حكومة واحدة.
تشير التكهنات إلي أن حماس لن تقدم علي خطوة تسليم الجندي الإسرائيلي الأسير "جلعاد شاليط" لأنه بمثابة ورقة الضغط الوحيدة التي تلعب بها في مواجهة إسرائيل، وإذا احترقت هذه الورقة بتسليم "شاليط" فلا أحد يضمن عدم قيام إسرائيل بإعادة القبض علي الأسري الفلسطينيين الذين يتم الإفراج عنهم مقابل الإفراج عن الأسير الإسرائيلي .. ولذلك فورقة "شاليط" موجودة دائماً علي المائدة دون أن يتم حسم أمرها .
في ظل هذه الأوضاع المتشابكة والمعقدة تبذل مصر قصاري جهدها للوصول إلي المصالحة في أقرب وقت، حتي تقفل "نزناز" التوتر المستمر وتهيئ الأجواء أمام الفلسطينيين لدخول مفاوضات السلام القادمة يدا واحدة، في مواجهة المناورات الإسرائيلية المستمرة التي تلقي باللائمة علي الفلسطينيين.
إيران هي التي قطعت العلاقات
الدولة المصرية - أيضاً - تقرأ من كتاب مفتوح وهي تتعامل مع الملف الإيراني .. حيث تصطدم إيران بوضوح بالرؤية المصرية تجاه الوضع المرتبك في المنطقة، ويتجسد ذلك في تصدي مصر للمحاولات الإيرانية المستمرة لإفساد المصالحة الفلسطينية من ناحية، ورفضها أن تقوم بدور "فتوة الخليج" من ناحية أخري، والأمر الجدير بالاهتمام هنا أن مصر لم تبادر بقطع العلاقات مع إيران كما تردد إيران ويروج أنصارها، ولكن إيران هي التي بادرت بهذه الخطوة .. وهي التي تفسد أي مبادرة لاستعادة العلاقات مع مصر كلما بدت في الأفق عوامل تهيئ الأجواء لمرحلة جديدة .
مصر لا تنكر أن إيران دولة كبيرة وشقيقة وتمثل حضارة عريقة وليس في صالح القضايا العربية استمرار قطع العلاقات، وسبق للقاهرة أن أبلغت طهران بضرورة تجاوز مشكلة دفن "الشاه" في مصر التي تثيرها إيران من وقت لآخر وكأن الشاه مازال حياً، وقال لهم مسئول مصري كبير ذات مرة : "هل تريدون أن نستخرج رفات الشاه وتأخذوها؟".. ولا تقدر إيران الموقف الأخلاقي للرئيس السادات الذي تدخل لمساعدة الشاه في وقت تخلي عنه أقرب حلفائه وأنصاره وباعوه بلا ثمن.
تقوم إيران بألاعيب صغيرة لا تليق بحسن النوايا لإعادة العلاقات مثل حكاية الشارع المسمي باسم "خالد الإسلامبولي" قاتل السادات، وعندما التقي الرئيس مبارك مع الرئيس الإيراني خاتمي في جنيف في ديسمبر 3002 في قمة الأمم المتحدة لمجتمع المعلومات، تم الاتفاق علي حسم الخلافات والمشاكل واستعادة العلاقات، وفور عودة خاتمي لبلاده قام أحمدي نجاد - وكان عمدة لطهران في ذلك الوقت - ببناء جدارية كبيرة "للإسلامبولي" وكتب تحتها "أنا قاتل فرعون مصر".
تأكد لمصر أن إيران غير جادة في تهيئة الأجواء لإعادة العلاقات وأنها مازالت علي نفس نهجها القديم الذي أدي إلي إشاعة سُحب كثيفة داكنة في سماء العلاقات بين البلدين، جراء محاولاتها دس أنفها في الشأن الداخلي المصري، ولم تفهم أبداً التحذيرات الشديدة في هذا الشأن.
لسنا في خندق إسرائيل ضد إيران
استمرت الألاعيب الإيرانية التي تفسد كل فرص التقارب مع مصر أولاً بأول، وعندما ازدادت حوادث الإرهاب في التسعينيات قدمت السلطات المصرية لطهران قائمة بأسماء وعناوين وأرقام تليفونات عدد كبير من الإرهابيين المطلوبين علي ذمة قضايا إرهابية في مصر والمقيمين في إيران ويتمتعون بحماية السلطات الإيرانية، واعترفت إيران بوجودهم علي أراضيها بعد أن كانت تنكر ذلك تماماً، ولكنها قالت أنها ستطبق عليهم مبدأ "الاستجارة" ورفضت تسليمهم .
ورغم أن أخطاء إيران كثيرة وتمتد إلي رفضها للسلام بين مصر وإسرائيل، إلا أن مصر رفضت رفضاً قاطعاً أن تكون في خندق واحد مع إسرائيل في أزمة الملف النووي الإيراني، إسرائيل تلعب لصالحها لتظل القوة الإقليمية الوحيدة المهيمنة علي المنطقة، أما مصر فإنها تعارض السلاح النووي الإيراني من زاوية تهديد طهران للأمن القومي العربي خصوصاً أمن منطقة الخليج، وترفض مصر تماماً أن تلعب إيران دور البلطجي الذي يفرض الإتاوة علي دول الخليج علاوة علي الإخلال بموازين القوي في المنطقة، نتيجة امتلاك كل من إسرائيل وإيران للخيار النووي . تبعاً لذلك لن تكون مصر طرفاً في أية ترتيبات عقابية أو عسكرية ضد إيران حتي لا تكرس مفهوم القوة لصالح إسرائيل، وتسخير دول المنطقة لخدمة أهدافها، وتعارض مصر بشدة أي عمل عسكري ضد إيران لأنه يعرض المنطقة كلها لمخاطر الإرهاب الذي يأتي علي الأخضر واليابس، وإذا اشتعلت نار الإرهاب من جديد فلن تستطيع أي قوة أن تطفئها .. ولن تنجو منها إسرائيل ولا المصالح الأمريكية في أي مكان في العالم .
العراق حائط الصد الذي انهار
"سيدي الرئيس كأنك تقرأ في كتاب مفتوح" .. هذه العبارة التي قالتها "كونداليزا" للرئيس مبارك بعد فوات الأوان تؤكد صحة رؤية مصر التي كانت تعارض بشدة غزو العراق، وتحذر من العواقب الوخيمة التي جاءت بعده .. علي الأقل فقد كان صدام حائط صد في مواجهة الزحف الإيراني ويحمي البوابة الشرقية للأمة العربية، صحيح أنه كان ديكتاتورا، ولكنه نجح في الإمساك ببلده بيد من حديد فالعراق صعب المراس منذ فجر التاريخ، ولعل ما فعله صدام لا يختلف عن الحجاج بن يوسف الثقفي الذي حكم العراق بالنار والحديد، وفرض السيف علي شعبه.
حذرت مصر من تدمير العراق الذي كان يصدر تموراً بمليار دولار، ويمتلك البترول والأنهار دون غيره من سائر الدول، ويتنوع الطقس في بلاده من الأجواء الاستوائية الحارة جنوباً حتي الطقس الأوروبي المتجمد شمالاً وتتنوع فيه تبعاً لذلك النباتات والمحاصيل والحيوانات والمزروعات والخيرات، وتزدهر فيه الثروات والثقافات والحضارات، ولكن تم تدمير هذا البلد الكبير من أجل مصالح أمريكا.
تعتمد الرؤية المصرية في العراق علي ضرورة إنقاذ ما يمكن إنقاذه وانسحاب قوات الاحتلال في أقرب فرصة من العراق بعد إعادة تشكيل قوات الأمن العراقية حتي تستطيع أن تتولي مهام الأمن بعد انسحاب القوات الأجنبية حتي لا تحدث كوارث أمنية بسبب الانسحاب المفاجئ للقوات الأجنبية دون تأهيل قوات الأمن العراقية للقيام بمهامها .
مصر رمانة الميزان في المنطقة
هذه هي مصر بثقلها ونفوذها ودورها المحوري والتاريخي، تلعب دور رمانة الميزان في المنطقة، ولو حدث لها مكروه - لا قدر الله - فسوف تمتد آثاره إلي جميع دول وشعوب المنطقة، فهي ليست دولة صغيرة ولا إحدي جمهوريات الموز، ويعتبر أمنها واستقرارها حجر الزاوية لأمن واستقرار المنطقة، وإذا تعرضت للخطر فسوف تتعرض كل دول وشعوب المنطقة للخطر، مصر هي القلب النابض رغم أية مزاعم أو افتراءات.. مصر تتحدث عن نفسها وتقول: "أنا إن قدر الإله مماتي.. لا تري الشرق يرفع الرأس بعدي".
الشيء المؤكد أن الإدارة الأمريكية في فترة حكم أوباما تتبع مع مصر المثل الذي يقول "أنصت.. احترم.. تعلم".. فهذه هي مفاتيح التعاون بعد أن باءت كل محاولات إدارة بوش بالفشل حين حاول أن يدس أنفه في الشأن الداخلي المصري، وتأكد لدي الجميع أن الضغوط الوحيدة التي تقبلها مصر لا تكون إلا لصالح الشعب المصري والتجاوب مع تطلعاته وطموحاته .. وتغيرت اللهجة الأمريكية من ممارسة الضغوط إلي فهم حقيقة الأوضاع في المنطقة والتجاوب مع ما تقتضيه ضرورات تحقيق الاستقرار.
في ضوء الرؤية المصرية، أبلغت القاهرة واشنطن أن برنامج الإصلاح الذي يجري تنفيذه الآن ليس هو نهاية المطاف، ولكنه مستمر ومتواصل حتي انتخابات الرئاسة القادمة، مع ترسيخ دعائم الدولة المدنية التي تمنع وصول العناصر الأصولية المتطرفة إلي الحكم، ولنا تجارب عديدة ومريرة مع جماعة الإخوان المسلمين في الاغتيالات والمؤامرات.
الديمقراطية وحقوق الإنسان شأن داخلي مصري، ولا تقبل مصر مشروطيات ولا إملاءات ولا التلويح بالمعونات التي انتهي مفعولها وتأثيرها وأصبحت ضد الكرامة الوطنية عندما يتم التلويح بها للضغط علي مصر لتقبل ضغوطاً معينة .. وحقوق الإنسان يجب أن تتسع لتشمل حقوق المرأة والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، وحقوق الطفل والتنمية وغيرها من القضايا.
"وكأنك تقرأ من كتاب مفتوح" .. كتاب يرسم خارطة الطريق لمستقبل مصر والمنطقة، يستمد دروسه من خبرات وتجارب لو رصت فوق بعضها البعض .. لشكلت بناء في حجم الهرم الأكبر.

E-Mail : [email protected]