الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الاستشراق فى الميزان

الاستشراق فى الميزان
الاستشراق فى الميزان




 إبراهيم العسال  يكتب:

يعانى التاريخ الإسلامى من تشويه متعمد لتفصيلات جوهرية تعصف بقيمته الروحية عند البسطاء، وتغييب للحقائق والثوابت التى ترجح كفته بين جمهور المثقفين، وتركيز على أخبار فرق ضالة على حساب غالب أعم ساهم فى نمو الفكر الإنسانى السليم.
ولعل من أبرز الظواهر المؤدية إلى ذلك هى ظاهرة الاستشراق ومنهج بحث المشتشرقين من ذوى الهوى والأهواء وتبعية عمياء لبعض المتخصصين لكلام هؤلاء المستشرقين وكأنه كلام مقدس لا يقبل التأويل وترديد من غير أهل الاختصاص لما جاء على ألسنتهم مغرضا ومشوها.
هذا وتُعد ظاهرة الاستشراق واحدة من أبرز الظواهر الفكرية التى عرفتها العلاقة الأبدية بين الشرق والغرب؛ فالاستشراق كإصطلاح هو سعى الغرب لدراسة الشرق من شتى مناحى المعرفة كدياناته ومذاهبه وشعوبه وثقافاته وحضاراته. إلا أن مقاصد المستشرقين من هذه الدراسات قد اختلفت وتمايزت فمنهم من سعوا إلى المعرفة والكشف عن حقائق وأساطير الشرق بمنهج علمى دقيق وقريب من الموضوعية والحياد، ومنهم من شكل حجر الزاوية للأطماع الغربية فى نهب ثروات الشرق واحتواء ثقافاته واخضاعه للهيمنة الفكرية الغربية، ومنهم من دفعته الميول العقائدية والصراعات الدينية التاريخية فكان حريصا على التشويه والتزييف لصالح ما يعتقد ويؤمن به.
وتكمن مشاكل غير المنصفين من المسشترقين فى محاولة إثبات أن الإسلام ما هو إلا صورة عربية من اليهودية والمسيحية، وتصوير الشريعة الإسلامية وكأنها صورة عربية من القانون الرومانى، فضلا عن محاولات نقل التناقضات الفكرية الغربية إلى الفكر الإسلامية مثل التناقضات بين الدين والدولة، بين العلم والدين وخلافه.
واعتمد منهج هذا الفريق من المستشرقين على تضخيم حجم الفرق والمذاهب الشاذة والمغالية التى ظهرت فى الحياة الفكرية الإسلامية، وذلك لإظهار المسلمين وكأنهم أمة متفككة وذلك على حساب الوحدة التى مثلها أهل السنة والجماعة الذين مثلوا أكثر من90% من المسلمين على مر تاريخ الدول الإسلامية.
كذلك الحرص كل الحرص على التركيز على الجوانب السياسية والعسكرية فى التاريخ الاسلامى دون النظر إلى الانجازات الهائلة ثقافيا واجتماعيا فى المجتمع الاسلامى عبر العصور مما أدى الى توصيف التاريخ الإسلامى فى بعض الأحيان على أنه اقتتال دائر ليل نهار من اجل السلطة ومعارك من أجل الجاه والسلطان وهو ما يخالف الحقيقة بطبيعة الحال.
وتتعدد نماذج الإساءة التى جاءت فى كتابات المستشرقين للتاريخ الأموى معتمدين على المصادر الشيعية التى خرجت للنور قبل أن يفطن علماء السنة الى اهمية الكتابات التاريخية بالأساس، مما جعل بعض المستشرقين يبالغ فى تقدير المصادر الشيعية للتاريخ مثل المؤرخ الألمانى فلهوزن حين وصف أبا مخنف لوط بن يحيى الأخبارى - احد ابرز مؤرخى الشيعة - بأنه الحجة الكبرى، ملقيا بكل إدانات علماء الجرح والتعديل من اهل السنة والجماعة عرض الحائط. مما جعل فلهوزن نفسه يقع فى سب كبار الصحابة وهو لُب العقيدة الشيعية، كذلك المستشرق الشهير كارل بروكلمان الذى يتغنى بكتاباته عشرات المؤرخين فى الحقول الأكاديمية يصف كبار الصحابة بالانتهازية ويشكك فى إسلام بعضهم.
وبعيدا عن تأثيرات المصادر الشيعية على آراء المستشرقين، فنرى تأثر البعض بالبيئة الغربية كما أشرنا مسبقا غير مصدق ان إماما مثل الحسن بن على رضى الله عنه بما له من مكانة عظيمة فى نفوس المسلمين قاطبة يتنازل عن الحكم لمعاوية ابن أبى سفيان لمجرد فكرة حقن دماء المسلمين فهو أمر لا يصدقه من يؤمن بالجوانب المادية فقط وينكر النواحى الروحية وهو أمر لا يقتنع به كثيرا مؤرخون من غير المسلمين؛ فها هو المؤرخ الانجليزى برسى سايكس يسوق مبررا ان الحسن بن على خاف ان يجرب جيشه فى ميدان القتال وانه اشتغل بملذات النساء.
أما الجانب المضىء فى كتابات المسشترقين فالانصاف يقتضى الاشارة الى ان هناك آراء مهمة للمنصفين من المستشرقين بحق الحضارة الإسلامية؛ فلم تَخلُ أوروبا من مؤرخين أبصروا ما للمسلمين من فضل فى الحضارة الإنسانية على الحضارة الأوروبية؛ فألفوا كتبا ودراسات منصفة تشيد بفضل المسلمين الذى لا يمكن إنكاره. فقد نذكر نفرا منهم درسوا هذه الحضارة دراسة وافية وأبدوا إعجابهم بها، ومن امثلة هذه الاشادات ما قاله «جورج سارتون» فى كتابه (مقدمة فى تاريخ العلم): «إنّ الجانب الأكبر من مهام الفكر الإنسانى اضطلع به المسلمون؛ فـ»الفارابى» أعظم الفلاسفة، و«المسعودى» أعظم الجغرافيين، و«الطبرى» أعظم المؤرخين»، كذلك آدم متز فى كتابه (الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجرى): «لا يعرف التاريخ أمة اهتمت باقتناء الكتب والاعتزاز بها كما فعل المسلمون فى عصور نهضتهم وازدهارهم، فقد كان فى كل بيت مكتبة».
هكذا حاولت فى هذا المقال ان اضع الاستشراق فى ميزان التاريخ مستعرضا المنهج الذى اتبعه المستشرقون فى عرض الحقائق التاريخية والتأثيرات التى تعرضوا لها فى التحليل والتفسير.
وفى المجمل فإن الحضارة الاسلامية هى صاحبة الفضل فى إرساء الحجر الأساس للحضارة الأوروبية الحديثة؛ حيث أسهمت بكنوزها فى الطب والكيمياء والرياضيات والفيزياء فى الإسراع بقدوم عصر النهضة وما صحبه من إحياء للعلوم المختلفة.