احترام الموت
عبد الله كمال
لا أعتقد أن أحدًا يمكنه أن يكتب عن الكاتب الراحل الكبير محمود عوض بقدري.. ولا أظن أن تلميذًا يمكنه أن يدعي تواصلاً معه كما يجوز لي ذلك.. وأوقن إني سمعت منه طيلة سنوات ممتدة الكثير من القصص والحكايات والوقائع التي لم يعرفها الكثيرون.. ولكن احترام الموت.. ورحيل الراوي يوجب علينا أن نلتزم الصمت.. فلو كان يريد أن يقول شيئًا لكتبه أو قاله وهو علي قيد الحياة.. وكان قلمه قادرًا ولا يدانيه أحد في الحكاية.
أكتب هذا مطالبًا الزملاء الأعزاء الذين يتطوعون الآن، بفعل حزنهم عليه، برواية أمور وقصص، لم يعد أصحابها بيننا، بما فيهم محمود عوض نفسه، إذ ليس علينا ونحن نذكر الأستاذ الراحل بالخير أن نؤذي أساتذة أفاضل أعطاهم الله الصحة أو أساتذة آخرين رحلوا .. يرحمهم الله.
لقد تناقشت معه مليا في مسألة خلافه العميق مع الأستاذ موسي صبري.. ولم أكن أعرف الأستاذ موسي.. ولكني أقدر مسيرته وتاريخه ومكانته.. ومن ثم اكتفيت في نعيي للأستاذ محمود بأن أشير إلي أنه كان بينهما خلاف ولم أشر إلي مضمونه.. فصاحبا التاريخ ماتا.. ولو أراد محمود عوض لكان قد كتبه أو صرح به.. وقد أتيحت له مئات الفرص طيلة عمره حتي بعد أن مات موسي صبري.. ولكنه لم يفعل.. ولعلم من يكتبون فقد تناقشت معه كثيرًا في هذا خصوصًا حين أعد موسي صبري مسلسلاً إذاعيا شهيرًا.. كنت أتضرر يوميا وأنا أسمعه وأعبر عن ذلك لمحمود عوض.. فيضحك.. ويعود إلي ما يشغله.
إن مشكلتنا كصحفيين هي أننا نظن أننا ملاّك الحقيقة.. ولا أحد ينازعنا ذلك.. حتي فيما يخص زملاءنا.. وعلي سبيل المثال فإن زميلاً قد اتصل بي يوم الأحد الماضي متضررًا.. ويقول: إن علينا أن ننتبه إلي أوراق محمود عوض ووثائقه.. فقد لا يعرف قيمتها أهله.. وقلت له: ما لنا نحن بذلك.. إن له ورثة.. وهم أحرار يفعلون بما ترك ما يريدون.. لسنا أوصياء عليهم.. ولو كان يريد أمرًا معينًا لكان قد قاله قبل أن يموت. فهدأ الزميل.. وفيما بعد علمت أن الأستاذ النقيب مكرم محمد أحمد قد اقترح علي الأسرة أن يشكل لهم لجنة تساعدهم في الأمر.. وهذا عمليا سلوك غير وصي وله إيجابياته ويحترم كينونة الناس وحزنهم ويقدر عقلهم.
وقد كان يمكنني أن أروي قصصًا كثيرة سمعتها من محمود عوض بخصوص ما تعرض له من بعض الزملاء الشباب.. أبناء جيلي للأسف.. بينهم بعض من زواره المستمرين في بيته.. حين دبروا ما أدي إلي إبعاده عن رئاسة تحرير جريدة خاصة قبل ما يزيد علي ثلاثة أعوام.. ولكني لم أفعل.. حتي وأنا أراهم يتصدرون عزاءه يوم الثلاثاء.. ويكتبون عنه القصائد.. ويقولون بالطبع الكثير مما لم يفعلوا فيه.. رحم الله الحي والميت.
كما أن قصته مع أخبار اليوم.. ورئيس مجلس إدارتها الراحل موسي صبري.. ورئيس تحريرها السابق الكاتب الكبير إبراهيم سعدة (وكان أيضًا رئيسًا لمجلس الإدارة) لها جوانب كثيرة جدًا.. وفي علاقات الصحف مع أبنائها.. خصوصًا المؤسسات الكبيرة.. الكثير من التعقيدات غير المرئية.. ولكن ليس من حق أحد أن يرويها من جانب واحد.. خاصة إذا كان صاحب هذا الجانب قد مات توًا.. وحتي لا ندفع البعض لأن يمضي في رواية تفاصيل أخري من جانبه قد تخالف ما ينسب إلي الراحل العزيز.. فلنحترم موته.. ولنحترم رغباته المسجلة في حياته.. ومن النبل أن نقدر إنه لم يفعل وهو يعيش.. وإنه لم يعط أيا منا الحق في أن يتحدث باسمه.
وإذا كان فيما تلي رحيل هذا الكاتب الكبير وقائع تزيد ألمنا برحيله، وتجعله مضاعفًا، فإني أسعد جدًا بما قاله السيد وزير الخارجية أحمد أبوالغيط وهو يشاطرني أحزاني في الأستاذ الراحل.. إذ قال: كان كاتبًا نادرًا.. يذكر الوقائع بدقة قبل أن يدلف إلي تحليله.. ولا يمكن أن تجد فيما يكتب واقعة غير صحيحة.. وأهم ما فيه إنه كان زاهدًا لا يريد شيئا.. مترفعًا.. لديه عزة نفس متجلية لا تراها لدي كثيرين.
رحم الله محمود عوض.. وإذا أردنا أن يستجيب الله لدعائنا له بالرحمة.. فلترحموا ذكراه أنتم أولا ولتحترموا موته.
الموقع الإليكتروني: tne.lamakba.www
البريد الإليكتروني: [email protected]