الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الأجيال الضائعة والضمير المفقود

الأجيال الضائعة والضمير المفقود
الأجيال الضائعة والضمير المفقود




خالد عبدالخالق يكتب:

تُعد الثانوية العامة فى مصر مرحلة مفصلية فى حياة جميع الأجيال الحالية واللاحقة وحتى السابقة فيما مضى، لأنها تحدد المستقبل المهنى لأجيال من الشباب، ومن سيعيش عيشة السعداء او من سيسبح فى بحر التعاسة والبطالة والفقر والضياع، كل بيت فى مصر لا يخلو من وجود تلميذ أو أكثر فى مرحلة الثانوية العامة، والمنزل الذى، يوجد به احد فى المرحلة الثانوية يكون بمثابة ثكنة عسكرية، تُسخر كل الامكانيات والطاقات لهذا التلميذ ولهذه المرحلة، كل شىء يؤجل أو يلغى ويتقدم أى موضوع له علاقة بتلميذ الثانوية العامة فى هذا المنزل، إنها حالة من الهوس على اعتبار ان تلك المرحلة هى التى ستحدد مصير ومستقبل أبنائهم، وان كان هذا الاعتقاد ليس فى جملته صحيحا لأن فيروس البطالة ضرب كل التخصصات والشهادات والكليات صحيح بنسب متفاوتة الا ان الجميع اصبح فى الهم سواء.
كانت امتحانات الثانوية العامة هى معيار تفوق تلاميذ تلك المرحلة، كان الجميع ينظر إليها على انها الحلبة الوحيدة التى لا مكان فيها الا لمن اجتهد وذاكر وأدى واجباته على أكمل وجه، وحفظ المقرر من الجلدة للجلدة، وان يوم الامتحان يكرم المرء فيه او يهان، وما الى ذلك من الامثال والمقولات اليائسة البائسة التى يرددها الآباء ويتوارثها الابناء. كان هناك اعتقاد بأن الدولة ونظامها التعليمى حريصة على اولادها ومستقبلهم، كان هناك اعتقاد بأن امتحانات الثانوية العامة احد الاسرار العسكرية التى لا ينكشف عنها الحجاب الا عندما يراها الطالب وهو جالس فى لجنة الامتحانات، كان هناك اعتقاد بأن فى امتحانات الثانوية العامة يتساوى الجميع لا فرق بين ابناء الطبقة العليا والطبقة المتوسطة والطبقة الفقيرة، كان المعيار هو للكفاءة والشطارة والطالب النبيه الذى اجتهد طوال شهور الدراسة، لكن جاءت كارثة التسريبات لدحض وتدمير كل تلك المعايير.
أزمة مصر بعد ثورتين انها اصبحت تعانى فقدان قيم اصيلة وضرورية لبناء وبقاء اى مجتمع، لم تعد معايير الاجتهاد والعمل والمثابرة فى ثقافة وعقول الشباب بل اصبحت الفهلوة والحداقة هى المسيطرة عليهم، لم يعد هناك شىء اسمه العمل والاجتهاد والمثابرة طالما اننى استطيع ان احصل على كل شىء بالفلوس وحتى امتحانات الثانوية العامة. لم تعد هناك قدوة أو نموذجا يحتذى به، تصدر السفهاء والحمقى والاغبياء المشهد واصبحوا حديث الشارع صار الثراء سريعا والشهرة فى غمضة عين ورمية زهر.
قضية تسريب امتحانات الثانوية العامة ما هى إلا حلقة فى سلسلة من الاخفاقات المتتالية لنظام تعليمى هش عفا عليه الزمن، نظام تعليمى مخرجاته اضعف من ان تنافس فى الخارج او ان تثبت نفسها فى الداخل وتكون قادرة على النهوض بمجتمعها، نظام تعليمى أخرج الجامعات المصرية من اى تصنيف للجامعات العالمية، وعلى الرغم من تكرار سيناريو تسريب امتحانات الثانوية العامة اكثر من مرة خلال الاعوام السابقة ؛ الا انه لم يستطع هذا النظام التعليمى ان يضبط نفسه او يحفظ توازنه، الدولة تعاملت مع هذا الحدث الجلل والكارثة الكبرى كأنها تسريب لبقعة زيت فى مياه النيل، لم يهتم الوزراء السابقون للتربية والتعليم بمستقبل اولاد مصر تلاميذ المرحلة الثانوية مثلما لم يهتم وزراء البيئة او الصحة بصحة المصريين عندما يتسرب الزيت لمياه الشرب وما إلى ذلك.
كارثة تسريب امتحانات الثانوية العامة هى امن قومى لمصر، حدودها وتأثيرها لا يقتصر على بضع آلاف من تلاميذ مرحلة الثانوية العامة انما يمتد لاجيال سابقة ولاحقة، انها ازمة ضمير وعدالة وثقة اذا فقدوا تضيع الدول والامم والشعوب، من حق تلاميذ الثانوية العامة ان يشعروا بأن القائمين على مستقبلهم لديهم ضمير، وانه لابد ان تكون هناك عدالة ولا احد يفلت من العقاب، وان تكون هناك ثقة فى وطنهم بأنه حريص عليهم، اذا غابت تلك المعانى غابت الامم والحضارات والدول. جميس هنرى بريستد عندما درس الحضارة المصرية واعجب بها لم يجد لكتابة اسم افضل من «فجر الضمير»، فأين الضمير الآن؟