الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الوجوه المسفرة

الوجوه المسفرة
الوجوه المسفرة




كتب: د.محمد مختار جمعة
لقد تحدث القرآن الكريم عن وجوه المؤمنين ووجوه الكافرين، فقال فى الأولى «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ» (عبس :38)»  وقال سبحانه: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ» (القيامة : 22-23)، وقال فى الأخرى: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» (عبس :40-42)، وقال سبحانه: «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ» (المؤمنون :104)، وقال سبحانه: «لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَن ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ» (الأنبياء : 39)، وقال سبحانه: «أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (الزمر :24)، وقال فى مانعى الزكاة «يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِى نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ» (التوبة: 35).
والحقيقة أن ما دفعنى إلى كتابة هذا المقال هو سفرة طويلة رأيت فيها وجوها مختلفة لا علاقة للأمر فيها بالجنة أو النار، فهاتان مآلهما وعلمهما وأمرهما إلى الله وحده، إذ لا يمكن لأحد من الخلق أن يحكم على  أحد بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار، فذلك شأن خطير، وفى حديث نبينا (صلى الله عليه وسلم) يقول: «كَانَ رَجُلَانِ فِى بَنِى إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ، وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِى الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ: أَقْصِرْ، فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ، فَقَالَ: خَلِّنِى وَرَبِّى أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ، فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِى عَالِمًا، أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِى يَدِى قَادِرًا؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّار» قَالَ أَبُوهُرَيْرَةَ: وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ” (سنن أبى داود).
إنما كانت القضية تتعلق بمدى انبساط الوجه وتبسم المرء فى وجه أخيه، ومحاولة إدخال البسمة أو السعادة أو السرور عليه، من باب قوله (صلى الله عليه وسلم): «لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ” (صحيح مسلم)، وقد قالوا: البر شىء حسن، وجه طلق وقول لين، هذه الوجوه بغض النظر عن دينها أو مدى تدينها هى دنيا الناس، وجوه نضرة، وجوه مضيئة، وجوه إنسانية.
غير أن على الجانب الآخر نرى الوجوه الكالحة العابسة الكئيبة تعلوها غبرة وترهقها قطرة، فلا هى فاقهة لأمر دينها، ولا لأمر دنياها، فهناك وجوه عبوسة مكفهرة لا تكاد ترى لصاحبها بسمة ولا تدخل على أحد مسرة، ومع ذلك يظن بعض أصحاب هذه الوجوه العابسة البائسة أن هذا العبوس وتلك الكآبة قد تعطيهم قوة أو تضفى عليهم مهابة مصطنعة، على أن من يفكرون بهذه الطريقة إنما يحاولون أن يجبروا بداخلهم نقصًا وضعفًا وهزيمة نفسية داخلية، فقد كان نبينا (صلى الله عليه وسلم) يمزح غير أنه (صلى الله عليه وسلم) لا يقول فى جده ولا مزاحه إلا حقًّا، نحو ما كان من مداعبته لتلك العجوز بقوله (صلى الله عليه وسلم) : «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ، فَبَكَتْ عَجُوزٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَيْسَتْ يَوْمَئِذٍ عَجُوزٌ إِنَّهَا يَوْمَئِذٍ شَابَّةٌ» وذلك حيث يقول الحق سبحانه وتعالى: «إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا» (الواقعة : 35-37) .
وقد روى فى مواضع متعددة من كتب السنة والسيرة تبسمه (صلى الله عليه وسلم) فى وجه أصحابه، ومداعبته لهم، وملاطفته إياهم، فقد رأى (صلى الله عليه وسلم) الإمام عليًّا (رضى الله عنه) نائمًا على الأرض فقال له مداعبًا: «قُمْ أَبا تُرَابٍ قُمْ أَبَا تُرَابٍ» (متفق عليه)، ولما رأى الصحابى الجليل عبد الرحمن بن صخر الدوسى يحمل هرة لاطفه بقوله «يا أبا هر» وظل يلاطفه بهذا اللقب فى مواقف عديدة، بل إن كتب السنة والسيرة لتؤكد أنه (صلى الله عليه وسلم) ضحك فى بعض المواقف حتى بدت نواجذه من شدة الضحك، الضحك الذى لا إسراف فيه ولا يخل بهيبة أو مروءة.
وخلاصة القول: إن ديننا دين السماحة فى القول والعمل، والطلاقة والبشاشة فى الوجه، والأريحية فى النفس والعطاء، وفى كرم الطباع، فى الكلمة والنظرة والبسمة، فالمسلم الحق كريم معطاء سهل هين لين يألف ويؤلف، والكافر فظ غليظ لا يألف ولا يؤلف، وشر الناس من لا تؤمن غضبته ولا يرجى حلمه ولا خير فيه للناس.