الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد
الجانب الآخر للنصر العظيم
كتب

الجانب الآخر للنصر العظيم




 


 كرم جبر روزاليوسف اليومية : 05 - 10 - 2009


ألا تستحق حرب أكتوبر مسلسلاً تليفزيونياً واحداً ؟


1


كنت وقتها في الصف السادس الابتدائي، عندما استيقظنا فجراً وذهبنا إلي محطة القطار، لاستقبال المهاجرين الذين جاءوا إلي مدينتنا من بورسعيد عقب هزيمة 5 يونيو، وقيام الدولة بتهجير سكان مدن القناة.
لا أنسي ذلك اليوم ورئيس المدينة وأعضاء الاتحاد الاشتراكي يحملون زهوراً باهتة يستقبلون بها الضيوف ثم حملتهم سيارات النقل مع أمتعتهم البالية إلي مقر إقامتهم.
أقام "المهاجرون" كما كنا نطلق عليهم في المدارس، كانت كل أسرتين تقيمان في فصل واحد، وتفصل بينهما ملاية سرير رثة، أطفال ونساء وبنات وأزواج وزوجات تحت سقف واحد.
2
كنا نسمع عن خناقات "المهاجرين" في المدارس بسبب الحياة التعيسة، وإذا أرادت البنت أو الطفل الذهاب إلي دورة المياه، فعليهما أن يقطعا عشرات الأمتار للوصول إلي حمامات المدرسة في عز البرد والظلام.
لم يذب المهاجرون في مجتمع الصعيد بسهولة، من بورسعيد إلي أسيوط، المسافة شاسعة، والعادات والتقاليد مختلفة، من مجتمع صعيدي منغلق إلي مجتمع بورسعيدي منفتح.
الهزيمة النفسية للمصريين كانت أصعب بكثير من الهزيمة العسكرية، وما أصعب أن تنتزع إنساناً من عمله وبيته ومدينته، ثم تهاجر به مئات الكيلو مترات، ليقيم في فصل "شرك" داخل مدرسة.
3
المهاجرون عادوا إلي مدنهم بعد نصر أكتوبر العظيم، عادوا لبيوتهم وعائلاتهم وشوارعهم وغرف نومهم، وودعوا إلي الأبد عيشة الدواجن في الأقفاص.
كان مستحيلاً أن تطول إقامتهم أكثر من ست سنوات ما بين هزيمة يونيو 67 وانتصار أكتوبر 73، الطفل الذي جاء عمره شهراً دخل المدرسة، والبنت الصغيرة أصبحت علي وش زواج.
كان مستحيلاً أن تمتد حالة اللاسلم واللا حرب، لأن المهاجرين الذين جاءوا إلي مدينتنا تم توزيع مثلهم علي بقية مدارس الجمهورية، وفي كل مدرسة بركان أخلاقي يوشك علي الانفجار.
4
مازلت أذكر "وفاء" أجمل مهاجرة التي جاءت في سن الزهور ثم كبرت وزاد جمالها وامتدت إليها الأيدي الآثمة التي زجت بها في تيار الرذيلة، فمنحت جمالها، لمن يدفع.
أحبها شباب كثيرون أرادوا الاقتراب منها، وحام حولها صيادون أكثر، نجحوا في الإيقاع بها، وبمرور الوقت اتسع نشاطها وتركت المدينة إلي مدينة أخري قريبة.
لم يمض وقت طويل حتي تم العثور علي وفاء جثة منتفخة في إحدي الترع بالقرب من ديروط الشريف، وبالطبع قيدت القضية ضد مجهول لأن دمها وزع بين عشرات الشبان.
5
هذه هي الحروب وهذه هي ويلاتها، فالهزيمة لا تكون فقط في جبهة القتال، ولكن الهزيمة الأفدح تكون في الداخل حيث تتحطم النفوس وتنهار القيم وتصبح الدنيا علي كف عفريت.
الهزيمة أيضا فعلت فى جيل الستينات والسبعينات مثلما فعلت فى المهاجرين.. كانوا يحلمون بالنصر وإلقاء إسرائيل فى البحر، فاستيقظوا صباحا على جيشهم مهزوما فى الصحراء.
لم يجد الشباب طريقاً يلجأون إليه، إلا التطرف "الديني" أو "الخلقي".. ومنذ ذلك الوقت أصيبت مصر بعدوي التطرف الذي تحول إلي عنف وإرهاب وقتل ودماء.
6
هذه هي الحروب، لمن لا يعرفون أهوالها وويلاتها وكان ضروريا أن تأخذ مصر بثأرها ليس فقط لاستعادة أرضها المحتلة، ولكن أيضا لاستعادة شعبها من براثن اليأس والإحباط والهزيمة النفسية.
كان يوم سبت "عشرة رمضان" وكنت يومها صائماً وعندما فتحت الراديو للاستماع لنشرة الساعة الثانية والنصف ظهراً، جاءت البشري، قواتنا المسلحة العظيمة تقوم بالرد علي إسرائيل والهجوم علي مواقعه في سيناء.
"الله أكبر" كانت كلمة السر.. الله سبحانه وتعالي الذي كافأ هذا الشعب الصابر بالنصر العظيم، وكانت إرادته فوق إرادة العدو، الذي حصن خط بارليف وجعل اقتحامه مستحيلاً حتي بقنبلة ذرية.
7
هل يعرف شبابنا هذه البطولات، هل سمعوا عنها.. هل سمعوا عن الطيارين الشبان العظماء الذين اقتحموا القناة بثلاثمائة طائرة، وأصابوا المدفعية والطيران الإسرائيلي بالشلل حتي نجح العبور؟
هل يعرفون شيئاً عن "مدافع المياه" التي أذابت خط بارليف وقصة حياة المهندسين الذين اخترعوها وكيف نجحوا في تصنيعها في ألمانيا، بحجة إطفاء حرائق البترول الهائلة؟
هل يعرفون شيئاً عن صائد الدبابات "عبدالعاطي" و"محمد" الذي رفع أول علم فوق سيناء، وبقية أبطال الصاعقة الذين تم إنزالهم خلف خطوط العدو؟
8
هل يعرف شبابنا شيئاً عن خطة الخداع الاستراتيجي التي ضللت العدو فتصور أن الحرب مستحيلة، ولم يتخيل أن هناك حرباً رغم أن قواتنا كانت تعبر القناة بالفعل؟
هل يعرفون شيئاً عن أعظم خطة في التاريخ لإتلاف خزانات النابالم الرهيبة التي كان من الممكن أن تحوّل القناة إلي بحيرة من جهنم، إذا حاولت القوات المصرية عبورها؟
هل يعرفون شيئاً عن الثغرة، بعد تسلل القوات الإسرائيلية إلي الضفة الغربية للقناة، وكيف دخل العدو المصيدة بعد أن خطط لإدخال الجيش الثالث المصري في المصيدة؟
9
عشرات القصص والبطولات والأعمال العظيمة التي تصلح لأعمال سينمائية ومسلسلات تليفزيونية، توقظ في شبابنا النخوة والبطولة والكرامة والكبرياء.
كيف يحبون بلدهم بينما الأفلام والمسلسلات والبرامج عندنا سخرت نفسها للهدم والتشكيك واغتيال القيم وإطفاء كل شيء في حياتنا.
بالله عليكم.. ألم تكن هذه الذكري العظيمة تستحق مسلسلاً رمضانياً واحداً، مسلسلاً إنسانياً، تاريخياً، بطولياً.. بدلاً من الملايين التي تم إهدارها في مسلسلات التفاهة؟


E-Mail : [email protected]