الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

النيل نجاشى.. وسيناوى أيضا

النيل نجاشى.. وسيناوى أيضا
النيل نجاشى.. وسيناوى أيضا




د. خالد وصيف يكتب:
تلقى وزراء مياه حوض النيل فى ختام اجتماعهم بعنتيبى نسخة من «أول أطلس مائى لحوض النيل»، وذلك لمراجعته والتأكد من تطابقة مع الحدود الجغرافية والجيوسياسية، والديموجرافية لدولهم، واكتشف الوفد المصرى أن الأطلس جاء خاليا من سيناء كجزء من حوض النيل، وبينما تجرى مراجعة الاطلس وتصحيحه، فهى فرصة لاستعادة معلومات من تاريخنا القديم حان وقت تجديدها.
فالنيل نجاشى.. حليوة أسمر
قالها المصريون منذ القدم ورددناها خلف المطرب الراحل محمد عبد الوهاب منذ سبعين عاما.. والنيل أيضا مصرى بكل قواعد التاريخ والجغرافيا.. ولا تعارض بين الحقيقتين.. فكلتاهما تكمل الأخرى.
النيل مصرى بقواعد الاعتماد (المصدر الوحيد للمياه) والطول (ثلثه يجرى فى مصر) والمساحة (اكبر مساحة فى الحوض) والحضارة (مصر هبة النيل).. ومصريته تمتد مع حدود مصر الإدارية الثابتة منذ آلاف السنين.. شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.. كلها تشكل جزءا من الوادى الذى كونته رسوبيات النهر خلال آلاف السنين.. هذا ليس حديثا فى الوطنية.. لكنها معلومات اجتمعت عليها علوم الهندسة والجيولوجيا والتاريخ والجغرافيا.. من أى نقطة نبدأ منها سننتهى إلى نفس النتيجة.
المؤرخ اليونانى هيرودوت الذى عشق الحضارة المصرية ووضع فيها مؤلفات فى القرن الخامس قبل الميلاد.. تحدث عن خمسة فروع لنهر النيل تجرى فى مصر من اقصى الشرق إلى أقصى الغرب، غيره ارتفع بالعدد الى سبعة والبعض الى أحد عشر فرعا. دعونا نأخذ بما تحقق عليه الإجماع بين المؤرخين، هناك خمسة فروع: البيلوزى والسبنيتى والسايسى والمنديذى والبوكولى. وبالرغم من تضارب الروايات بخصوص اسماء الفروع نفسها، بالاضافة الى أن مساراتها غير واضحة وقد تتعارض احيانا، الا انه لحسن الحظ أمكن تحقيقها وتوفيقها على يد جغرافيين عظام فى العصر الحديث مثل الأمير عمر طوسون.
وقد تم ذلك بعد بذل مجهود كبير فى مطابقة أسماء المدن والاماكن القديمة التى تحملها تلك الفروع أو نهاياتها، وهذا ما أكدته مصادر خمسة موثوقة بدءا من هيرودوت وحتى الفتح العربى على ايدى المؤرخين ابن الحكم والمقريزى والإدريسى والمسعودى وغيرهم.
ما يهمنا هنا هو الفرع البيلوزى الذى ذكره هيرودوت منذ سبعة آلاف سنة وهو يجرى فى أقصى الشرق وينتهى عند بيلوز التى عرفت بعد ذلك باسم الفرما ثم تحولت الى بالوظة، والذى مازال باقيا من مجراه البحر الشبينى والخليلى وترعة أبو الأخضر وبحر فاقوس والسماعنة. هذا الفرع ظل موجودا حتى عصر الفتح الاسلامى فى القرن السابع الميلادى، حيث كانت منطقة شرق الدلتا مركز الثقل الهيدرولوجى فى الدلتا كلها، كما كانت المساحة المروية فى تلك المنطقة أوسع منها حاليا.
كما ان الاسم سواء بيلوزى او بالوظة أو الطينة، كلها مرادفات دقيقة لطبيعة التربة الطميية الرخوة والمتكونة من رسوبيات فرع النيل فى تلك المنطقة. وحينما تقرر نقل مياه النيل الى سيناء عبر ترعة السلام لزراعة 620 ألف فدان، منها 400 الف فدان بسيناء من ترعة الشيخ جابر بطول 86 كيلومترا حتى منطقة السر والقوارير، لم نكن فى الحقيقة ننقل مياه النهر خارج حوضه، لكنه كان عودة لمياه النهر لفرعها القديم الذى مازالت آثاره موجودة على الأرض هناك.
وهندسة الرى تفرق بين النهر وبين حوضه، فالنهر محصور فى مجراه الضيق الذى يحتوى ماءه، اما الحوض فيتسع ليضم كل المساحة التى تستفيد من مياه النهر وفروعه، كما يستوعب كل المنطقة التى تستقبل الامطار الساقطة عليه. وبالتالى فإن حوض نهر النيل فى مصر يضم سيناء أبا عن جد، نسب أصيل موثق فى الخرائط والمستندات.
لمزيد من التوثيق، من المهم العودة الى عمدة كتب الجغرافيا السياسية فى تاريخنا الحديث، وأعنى به شخصية مصر للراحل جمال حمدان. الذى أفرد مساحات واسعة من الكتاب تناول فيها قصة النيل وفروعه ودلتاه. فهو يفسر ظاهرة تقلص عدد فروع النيل بعملية «خف الذرة» التى يقوم بها المزارعون للحصول على محصول جيد من خلال شجرات اقل تستطيع حمل عدد أكبر من كيزان الذرة. يقول حمدان إن فروع الدلتا تعرضت لعملية اختزال الى عدد اقل من الفروع الأعمق والأوسع، فانقرض بعضها واهمل البعض الآخر، او ردم. وهو انتقال من المركب والمعقد الى البسيط والابسط، او من النمو الافقى المسطح الى النمو الرأسى المعمق. كما ان الفروع تأسر بعضها بعضا، الأوسع والأعمق يأسر الأضعف والأضحل ويأخذه فى ركابه، وهى ظاهرة تعرفها الأنهار بسبب تناقص حجم المياه الجارية وانخفاض منسوبها. هذا ما حدث لفروع النهر القديمة التى تقلصت من الشرق واتجهت الى الغرب.
وتحت هذه القاعدة يمكن فهم سبب وجود فرعين فقط الآن لنهر النيل دمياط ورشيد، واللذين آخذا شكلهما الحالى فى القرن العاشر الميلادى، ويمكن فهم تغير نقطة تفرق فروع النيل من جزيرة الوراق لتنتقل شمالا عند القناطر الخيرية فى العصر الحديث. ويمكن فهم سبب انضغاط فرع دمياط وتوسع فرع رشيد على عكس الوضع القديم، فالنهر فى حركة مستمرة تحكمه عوامل بيئية ومناخية. كما ان حفر قناة السويس فى القرن الثامن عشر لا ينفى التواصل بين شرق القناة وغربها مائيا وجيولوجيا.
هذا حديث يؤكد المؤكد ويثبت المثبت، لكن لا مانع من التكرار فى عصر التغيرات المتسارعة والحقائق التى تواجه عواصف تحاول تغييرها أو اقتلاعها من جذورها. ولن تفلح ابدا.. فذاكرة المصريين مصنوعة من صخور الجرانيت التى نحتوا منها معابدهم وأهراماتهم.