خالد صالح
عبد الله كمال
تحتاج هذه المؤسسة المصرية الرائعة إلي دراسة عميقة.. لكي ندرك أين تكمن علي وجه اليقين مقومات قوتها.. وكيف تملك هذه القدرة الهائلة علي أن تقدم كل يوم المبدعين.. المتألقين.. ويحدث فيها تتابع الأجيال.. والكشف عن المواهب.. علي الرغم من أنها غير منظمة.. لا تخضع لقيادة بعينها.. ولا تديرها جهة ما.. ولكنها تتطور.. وتموج بالعصرية.. وتكشف كل يوم عن طاقات خلاقة.. وإمكانيات لا نهائية.
أتحدث عن مؤسسة الفن في مصر.. بكل روافدها.. حتي لو كان هذا الرافد متراجعًا قليلاً عن ذاك أو رافد ثالث يعاني من تدهور.. وسبب هذا الحديث هو أن موسمًا دراميا عظيمًا قد انتهي بسلبياته وإيجابياته في مجال التليفزيون.. بعد موسم صيفي سينمائي مميز.. وفي كل مرة أتابع منتوج تلك المؤسسة كنت أكتشف مزيدًا من دلائل حيويتها.. ومن بينها الممثلون الذين يبلغ الكثيرون منهم مساحات مذهلة من الإبداع.. والتطور في الأداء.
ومنذ سنوات يقطع الفنان خالد صالح جسورًا إلي أسقف التألق، متدرجًا من خطوة إلي أخري، في رحلة اكتشاف النفس والقدرة، إلي أن بلغ في شهر رمضان عبر العمل التليفزيوني المدهش (تاجر السعادة) مرتبة متميزة.. نقلته إلي مستوي بعيد.. يجعله واقفًا في مساحة تنهل مما بين النجمين الكبيرين (جون مالكوفيتش) و(راسل كرو).. مقدمًا إبداعه كصيغة بنائية تتصاعد يوما تلو آخر.. وتدل ليس فقط علي عصامية الجهد.. وإنما أيضًا علي حالة إصرار علي التطور وتنمية القدرة بأسلوب يدفع إلي الإعجاب المدهش.
خالد صالح، الذي لا أعرفه شخصيا، وأناقض فكريا مجموعة أفلامه مع خالد يوسف المخرج المعروف أيديولوجيا، أبحر في نص متماسك أبدعه المتعمق عاطف بشاي ـ شفاه الله من الجلطة التي ألمت به ـ كما لو أنه يمشي فوق الماء.. متدفقًا ومجالدًا لذاته ومطوعًا لقدرته.. ومقدمًا لفن أصيل وصادق غير متكلف.. ومبشرًا بالمزيد من الإنجازات.
إن أهم ما يملكه هذا البلد هو بشره، هذا مكمن طاقة تحريكه عبر القرون، ولو كانت لنا ملاحظات عميقة علي سلوك هذا البشر.. لأنه إذا انتبه إليها وأدركها وعالجها وتخطاها فإن (طاقة التحريك) الهينة سوف تصبح (طاقة انطلاق ) جبارة..وجوهرة تاج هذا البشر هم عقوله ومبدعوه.. ودرة تلك الجوهرة هم فنانونا.. الذين لم ينعدم سيل تدفقهم الهادر عبر العقود.
خالد صالح وفق هذا المقياس فنان حقيقي، يتعثر فيقوم، قد يتوه ثم يجد نفسه، وقد ضل الطريق تليفزيونيا في العام الماضي في مسلسل (بعد الفراق)، لكنه بعد عملية بحث مجتهدة بدت مخططة لقي ذاته في (تاجر السعادة).. الذي قد تخدعك أحداثه في البداية فتظن أنك أمام عمل عادي مكرر.. وتكتشف بمضي الوقت أنك أمام قطعة درامية مبدعة وراقية.. حاربت الخرافة دون أن تصرخ.. ووقفت في وجه الجهل بكل سلاسة.. واعترضت طريق الأوهام بنعومة لابد أن نحسد عليها هذا (الصنايعي) الماهر جدًا عاطف بشاي.
شخصية الشيخ مصباح، الكفيف، حيث تجاوزت أحداث المسلسل مسألة إثبات أن الأعمي قد يكون أبصر من أي مبصر ببصيرته، لأنها ناقشتها أعمال فنية مصرية وأجنبية متنوعة.. بدءًا من فيلم (عطر امرأة) لآل باتشينو، وصولاً إلي مسرحية (وجهة نظر) لمحمد صبحي، وفيلم (الكيت كات) لمحمود عبدالعزيز، و(أمير الظلام) لعادل إمام.. هذه الشخصية (الشيخ مصباح) فعلت كل شيء في دراما (تاجر السعادة).. وفعل بها خالد صالح كل شيء.
حين تجاوز إعاقته.. علمنا عبور المعوقات، وحين تعايش مع فقره.. دون استسلام.. أقنعنا بقدريته، وحين غالب حاله.. أدهشنا باكتشافه لنفسه، وحين أحب.. امتزجنا بعواطفه، وحين انصدم في مشاعره.. تقمصنا مواقفه، وحين مارس الخديعة متنوعة الأبعاد علي المجتمع كله بمهمشيه ومتعبيه ومرتاحيه.. مسلمين ومسيحيين.. واحتال علي صحفييه وسياسييه وفنانيه وأثريائه.. كان أن بلغ بنا السبيل الذي تتمكن به تجارة الوهم من أن تسيطر علي عقول الناس.. أيا ما كانت مراتبهم.. وقد عبر خالد صالح كل تلك الحالات خلال (ورق متين ومنساب) وبمعاونة إخراج سلس وناعم لشيرين عادل.
هذا ممثل عظيم.
الموقع الإلكتروني: www.abkamal.net
البريد الإلكترونى: [email protected]