الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

بلد التسامح

بلد التسامح
بلد التسامح





كتب: د. محمد مختار جمعة
وزير الأوقاف

التسامح خُلق أصيل فى ديننا وفى ثقافتنا وفى تكويننا وفطرتنا، وجيناتنا الوراثية، فكتاب ربنا (عز وجل) يدعو إلى العفو والتسامح، حيث يقول سبحانه: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ»، ويقول سبحانه: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا»، ويقول سبحانه: «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»، ويقول سبحانه: «وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى»، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ بِسَمَاحَتِهِ قَاضِيًا وَمُتَقَاضِيًا».
ومصر بحضارتها الضاربة فى أعماق التاريخ لأكثر من سبعة آلاف عام، وبأخلاق أبنائها المتسامحين، بأزهرها الشريف بفكره الوسطى السمح، وبعلماء الأوقاف بفكرهم المستنير، وقفتْ عبر تاريخنا الطويل حائط صد فى وجه كل موجات العنف والتطرف، وكانت موطنًا للتسامح الإنسانى، وبخاصة منذ أن وطأتها أقدام الأنبياء وغمرها نور رسالاتهم التى تدعو الإنسانية جمعاء إلى إعلاء قيم التسامح والعيش الإنسانى المشترك فى أمن وسلام واستقرار.
ونقف عند الدرس الأول من دروس هذا التسامح الراقى على أرض مصر، والذى رأيناه يتجسد واقعًا عمليًا فى أعلى درجاته الإنسانية وحتى فى درجات البلاغة والبيان فيما كان من سيدنا يوسف (عليه السلام) مع إخوته على النحو الذى صوره القرآن الكريم فى سورة يوسف (عليه السلام)، فبعد أن كان ما كان من إيذاء إخوته له، وإلقائهم إياه فى الجُبِّ، واتهامهم له بالسرقة افتراءً عليه، عندما قالوا فى شأن أخيه لأبيه وأمه بنيامين (عليه السلام) «قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُم»، غير أنه (عليه السلام) قابل ما كان منهم بكل تسامح حين قال: «يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ»، وحين قال مخاطبًا إخوته مذكِّرًا بنعم الله عليه: «وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ* وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِى إِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى إِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ»، ونلاحظ أن الترتيب الزمنى للأحداث كان بإلقائه فى الجب , ثم بإخراجه من السجن، لكن السياق القرآنى على لسان يوسف (عليه السلام) لم يَسِرْ على هذا النسق إنما بدأ بفضل الله عليه بإخراجه من السجن، كما أنه (عليه السلام) لم يتحدث صراحة عن إلقاء إخوته له فى الجب، إنما عبر عن ذلك ضمنا بقوله: «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى»، فجعل الأمرُ مجردَ نزغٍ من نزغِ الشيطانِ، واستخدم صيغة الغائب فى مخاطبة الحاضر لرفع الحرج عن إخوته، فقال: «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِى» ولم يقل بينى وبينكم مع أنه فى مواجهتهم وفق دلالة السياق، وكأنه يقول: نحن أبناء اليوم، وما كان بالأمس فهو عفو وصفح وتسامح، واختيار لفظ الأخوة للتلطف فى الخطاب وكأنه يقول لنتناسى كل ما كان , فنحن إخوة وما بيننا وما يجب أن يكون هو كل ما تقتضيه الأخوة فى أسمى معانيها من الحب والصفح والتسامح.
ثم تأتى تعاليم المسيح (عليه السلام) «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» ككناية وتعبير عن أعلى درجات التسامح، ثم جاء ديننا الإسلامى الحنيف ليؤكد ويؤصل خلق التسامح ويجعله منهج حياة للمسلم مع ذاته، مع زوجه، مع جيرانه، مع أصدقائه، مع زملائه، مع المجتمع، فبالتسامح والرفق تحيا الأمم حياة هنية راقية، حيث يقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ»، وإن الله (عز وجل) يعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف ولا يعطى على سواه، وقد أكد لنا نبينا (صلى الله عليه وسلم) أن رجلا دخل الجنة لا لمزيد صلاة أو مزيد صيام أو مزيد حج أو مزيد زكاة أو صدقة، إنما فقط سماحته قاضيًا ومتقاضيًا، مما يؤكد عظمة هذا الخلق، وضرورة التحلى به، وتحويله إلى سلوك ومنهج حياة، لتظل مصر كعهدها بلد التسامح، بلد السلام، بلد الأمن والأمان، وأن تظل كذلك رمزًا للتسامح ومنارة له فى مشارق الدنيا ومغاربها.
مع التأكيد على أن ما ابتلينا به من عنف وتشدد لا علاقة له بالإسلام ولا بالأديان، حتى رأينا من شذوذ الفكر من يذبح أباه حجة أنه لا يصلى، وكأنهم لم يقرأوا قول الله تعالى فى شأن الوالدين «وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفًا»، فأمر القرآن الكريم بمصاحبة الوالدين بالمعروف حتى لو كانا كافرين ويحاولان حمل ولدهما على الكفر لا مجرد العصيان أو التقصير فى بعض العبادات، مما يؤكد أننا أمام موجة أفكار شاذة على ديننا ومجتمعنا وحضارتنا وثقافتنا تتطلب تضافرًا كبيرًا فى الجهود لمواجهتها أو للعمل على نشر الفكر الإسلامى الوسطى السمح المستنير.