الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا
.. لعن الله من أيقظها!
كتب

.. لعن الله من أيقظها!




 


كرم جبر روزاليوسف الأسبوعية : 24 - 10 - 2009

- يوسف بطرس غالي نموذج قبطي جريء.. يجب تعميمه
- "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي".. هيا بنا إلي الكنيسة
- "بالروح بالدم.. نفديك يا مصر" استبدلوا "مصر" ب "إسلام" أو "صليب"
- متي يحطم الأقباط أسوار العزلة السياسية التي شيدوها حول أنفسهم؟
- ما علاقة المساجد والكنائس بقصص الحب والغرام بين الطرفين؟
- التسامح هو الدرع السحرية التي تحمي هذا الوطن في الأزمات
لا أنسي منظر تلك الفتاة الصغيرة المذعورة التي التقيت بها في مكتب مدير مباحث المنيا سنة 8891، في أعقاب حرق مدينة أبوقرقاص بسبب شائعة كاذبة، بأن شابا مسيحيا اسمه أشرف نجح في التغرير بهذه الفتاة، وكان يذهب بها إلي شقة للدعارة فيها جنس ومخدرات وأبواب سحرية، والتقطت الجماعة الإسلامية الشائعة وأحرقت منازل المسيحيين في أبوقرقاص، دفاعا عن الشرف، ورفعت شعار "لا يسلم الشرف الرفيع من الأذي حتي يراق علي جوانبه الدم".
لا أنسي منظر هذه الفتاة لأن الأسابيع الماضية بدأت تشهد قصصا مشابهة، وأصبحت الفتنة الجنسية هي أقصر طريق للفتنة الدينية، ويخرج مهاويس الأقباط يهتفون "بالروح بالدم.. نفديك يا صليب"، ويرد عليهم مهاويس المسلمين "بالروح بالدم.. نفديك يا إسلام"!
الفتاة المذعورة التي التقيت بها منذ عشرين سنة كانت تستمع لبرنامج "أجراس الخطر" في الراديو، وتقمصت شخصية فتاة مدمنة كانت تدلي باعترافاتها في البرنامج، و"سرحت" بصديقتها بتلك الحكاية المختلقة، فما كان من الصديقة إلا أن نقلت ما سمعته لشقيقها المتطرف، فجمع أفراد التنظيم وأعلن الحرب علي المسيحيين، وأصدر منشورا يدعو فيه المسلمين إلي الموت دفاعا عن الشرف أو أن يحفروا قبورهم ويدفنوا أنفسهم فيها!
إذا أحبت فتاة مسيحية شابا مسلما، أو حدث العكس.. ما علاقة الإسلام والمسيحية بذلك.. ولماذا يتم اللجوء إلي المسجد أو الكنيسة، بدلا من أقسام الشرطة، وترفع المصاحف والصلبان بدلا من الاحتكام إلي القانون؟!
كان الفكر المتطرف منذ عشرين سنة حكرا علي الجماعات الإسلامية، التي تسلحت بالعنف والإرهاب، وكانت تقتل وتحرق وتستخدم السيوف والجنازير.. ورغم تطور الزمن واختفاء الجماعات الإسلامية وضرب الإرهاب، إلا أن التطرف اتسعت مساحته لتشمل قطاعات كبيرة من المواطنين.. وأصبحت الحوادث التافهة والصغيرة سببا في تفجير أحداث عنف كبيرة، علاوة علي أنها تساعد علي زيادة الاحتقان والتربص بين عنصري الأمة.
كان المفترض أن يحدث العكس، بعد المعاناة المريرة مع الإرهاب والإرهابيين، وبعد أن استرد الوطن عافيته، وتخلص من الكابوس الثقيل الذي كتم علي صدره، ولكن ازدادت العقول غلا وكراهية، وامتلأت النفوس بالريب والشكوك، وأصبح التفسير الديني للأحداث الجنائية هو المسيطر علي الأجواء.
صحيح أنه لا وجه للمقارنة بين أمس واليوم، بين وطن كان ينام في أحضان الخوف ويستيقظ علي أصوات الرصاص.. وبين بلد ينعم الآن بأقصي درجات الهدوء والطمأنينة، إلا من بعض الحوادث القليلة التي تعكر الصفو، وتستثمرها الفضائيات ووسائل الإعلام المحلية والأجنبية أسوأ استغلال.
لو نظرنا إلي المشاكل التي تقع بين المسلمين والأقباط سوف نجد أنها تنقسم إلي ثلاثة أقسام: الأول: حوادث عادية تقع في كل المجتمعات، دون أن يكون لها أدني ارتباط بالأديان، مثل حادث غرق سيارة فيها بعض القساوسة، أو إطلاق الرصاص علي أحد الشيوخ وهو يصلي، وسرعان ما يتم ربط ذلك بتفسيرات دينية، خصوصا إذا كانت هناك مشاحنات أو مناوشات بين المسلمين والأقباط، وربما تشتعل أحداث العنف، ثم يكتشف الجميع أن ذلك لا يرتبط من قريب أو بعيد بأية أسباب دينية.
الثاني: هو المنازعات علي الأراضي، سواء لبناء الكنائس أو لتحديد زمام الأديرة، وفي الغالب الأعم يلجأ الإخوة المسيحيون إلي الكنيسة للحصول علي مزايا ومنافع وأراض بالابتزاز ولي الذراع، علي أساس أن ممارسة مثل هذه الضغوط تؤدي إلي رضوخ الأجهزة المحلية والاستجابة لمطالبهم تفاديا للمشاكل.
الثالث: هو حالات الحب والزواج والهروب من الأسر، ومعظم الحالات لفتيات مسيحيات مع شباب مسلم، وإن وجدت حالات قليلة بالعكس.. وهذه الحوادث هي التي تشعل الفتن وتؤدي إلي الصدام، خصوصا في الصعيد، حتي لو كانت الفتاة قد هربت مع الشاب المسلم وتزوجته بمحض إرادتها. الأمثلة والأسماء كثيرة، وتعجز كل المقترحات والجهود في إيجاد حلول لمثل هذه المشاكل، إلا إذا انتهي الأمر بتسليم الفتاة لذويها، حتي لو أدي ذلك إلي قتلها والتخلص منها.
ليس صحيحا ما يذهب إليه بعض أقباط المهجر ووسائل إعلام التحريض، بأن الأقباط في مصر لا ينالون حقوقهم، مثل بناء الكنائس وتولي الوظائف العامة وحرية أداء الشعائر، وغيرها من الأسباب الكاذبة، ولا تؤدي هذه المزاعم من قريب أو بعيد لأحداث العنف التي تقع، لأن الأقباط هم مواطنون عاديون مثلهم مثل إخوانهم المسلمين، ولا تفرقة بينهما، ولكن الاحتقان الديني الذي يتنامي في السنوات الأخيرة هو السبب في التفسير الديني لأحداث العنف.
هذه ظاهرة تحتاج إلي بحث ودراسة، لتحديد ما إذا كان يرجع ذلك إلي أجواء المشاعر الدينية التي تسود المنطقة الآن، أم أن هناك أسبابا داخلية تؤدي إليه، وفي كل الأحوال يجب الانتباه بشدة لبعض الأصابع الخفية التي تحاول اللعب بين عنصري الأمة من وراء الستار. السؤال المهم الذي يجب أن نبحث له عن إجابة هو: لماذا تراجعت مساحات التسامح والود بين الطرفين، وحلت محلها مشاعر التوتر والاحتقان؟.. وهل يرجع الأمر إلي الشعور بضعف الحكومة ومحاولة لي ذراعها لتحقيق بعض المطالب والمكاسب، مثلما تفعل جماعات الضغط؟!
أخطر ما في الأمر هو الفضائيات ووسائل الإعلام التي تحاول الصيد في الماء العكر، وتتربص بأي حادث صغير لتجعل منه حريقا كبيرا.. وأصبحت الموضة الآن هي الفضائيات الإسلامية التي تقابلها الفضائيات المسيحية.. وكل طرف يروج لخطاب ديني متطرف، أو علي الأقل يغلِّب المشاعر الدينية علي الهوية الوطنية.. فيلجأ الناس إلي الكنائس والمساجد، بدلا من الانضواء تحت مظلة الدولة واللجوء إليها.
منذ سنوات كانت الهوية الوطنية أقوي من النزعة الدينية، وكان المسلم والمسيحي يقولان: "أنا مصري" أولا، وكانت الهتافات التي نسمعها في المظاهرات والمناسبات هي "بالروح بالدم.. نفديك يا مصر"، وعندما جاء اللورد كرومر إلي بلادنا أيام الاحتلال ليضرب الحركة الوطنية المصرية بدس الفتن بين المسلمين والأقباط، أرسل لحكومته بعد أن أصابه اليأس يقول: "مصر ليس فيها إلا مصريون، بعضهم يذهب إلي المساجد وبعضهم يذهب إلي الكنائس ولا فرق".
هذه هي الروح المصرية الأصيلة التي مازالت تنبض رغم محاولات ضربها، لكنها في النهاية تتغلب علي الأزمات والمشاكل.. وترد الجميع إلي نقطة البداية وهي "مصر وطن لكل المصريين"، فيتم احتواء المشاكل والتغلب علي النزاعات.
رغم أن التعديلات الدستورية الأخيرة الخاصة بالمواطنة كانت خطوة حاسمة علي طريق إذابة المشاعر الطائفية، إلا أن وضع النصوص الدستورية موضع التنفيذ يحتاج إلي بعض الوقت والإصرار والعزيمة.
لا يكفي أن يتحدث الدستور عن فصل الدين عن السياسة في الانتخابات العامة، لأن هذا الأمر يحتاج إلي اتخاذ خطوات كثيرة لتهيئة المجتمع لتقبل ذلك، ابتداء من المدارس وإدخال مادة جديدة حول التسامح الديني تكون مشتركة للجميع، حتي تطبيق ميثاق الشرف الإعلامي بحزم للحفاظ علي وحدة نسيج الوطن، ولابد أن تكون لدينا استراتيجية واضحة يتم تطبيقها بالتدريج، وصولا إلي هذا الهدف.
لابد أن نصل في النهاية إلي نقطة أن تبتعد الانتخابات تماما عن الترشيحات الدينية، أو أن تحتكر جماعة - مثلما تفعل المحظورة - الدين لصالحها، وتترجم ذلك إلي أصوات تضاف إلي رصيدها في صندوق الانتخابات. الدستور يجرم ذلك، ولكن حتي الآن لم يصدر قانون انتخابي يحظر الدعاية الدينية بجميع صورها.. لأننا وصلنا إلي نقطة الخطر، وهي أن يتباهي أعضاء المحظورة ويتفاخرون بأنهم ينتمون إلي جماعة الإخوان المسلمين، وتحاول بعض وسائل الإعلام أن تعطي شرعية لهذه الجماعة غير الشرعية رغم أنف الدستور والقانون.
لن ننجح في مواجهة الأحداث الطائفية إلا بالتطبيق الحازم للقانون، وأن تضرب الشرطة بيد من حديد كل من يحاول العبث بالأمن والاستقرار، دون أي اعتبار لعبارة مسلم أو مسيحي، ويجب إبعاد المؤسسات الدينية تماما عن ممارسة الضغوط في هذا الشأن.
فعندما تندلع مشاجرة بين عائلتين مسلمة ومسيحية بسبب أولوية المرور في الطريق العام في أبوقرقاص.. ليس للدين أية صلة بمثل هذه الحوادث، ولا يجب أن تلعب عليها وسائل الإعلام ومراكز حقوق الإنسان التي تشعل الحرائق، ولا أقباط المهجر الذين انعزلوا تماما عن واقع الحياة في مصر، وأصبحوا ينظرون للأحداث بعيون الغربة!
القانون أولا.. وبعد ذلك يمكن إفساح المجال للتسويات الودية التي تستهدف وضع الأمور في حجمها الصحيح، ومكاشفة الرأي العام بالحقائق فور وقوع الأحداث، لعدم ترك الفرصة لهواة الصيد في الماء العكر بأن يمارسوا هوايتهم، وعندما يتولد لدي الجميع شعور بأن سطوة القانون لن تقبل ضغوطا أو وساطة، فلن يحتمي أحد بالكنائس أو المساجد للإفلات من جريمته أو لنيل حقوق لا يستحقها.
الأمر الجدير بالانتباه هو أن مثل هذه الحوادث انحسرت في حدها الأدني، رغم زيادة مشاعر الاحتقان والاستقواء بالكنائس أو المساجد.. وشتان بين ما كان يحدث في السبعينيات والثمانينيات وبين الآن.
لكننا - أيضا - نحتاج إلي خطة طويلة المدي لإحلال المشاعر الوطنية النبيلة بين عنصري الأمة، والتقريب بينهما في المناسبات المختلفة، سواء الدينية أو الوطنية.. ولا ينبغي أبدا أن يقتصر الأمر علي مناسبة أو مناسبتين في السنة.
نموذج الدكتور يوسف بطرس غالي هو الموديل الذي يجب علي الإخوة المسيحيين تعميمه، فلا تشعر أبدا أنه يتعامل كمسيحي، بل كمصري يتمتع بالجرأة والقوة والكفاءة، وأحيانا الرزالة.. ويخوض الانتخابات ويكسبها ولا يأتي إلي البرلمان بالتعيين، لكنه نجح في تحطيم أسوار العزلة السياسية الوهمية التي يفرضها الأقباط حول أنفسهم.
لو نجح عشرة أو عشرون مسيحيا في أن يكونوا مثل يوسف بطرس، فسوف نعود إلي أيام مكرم عبيد تدريجيا الذي كان يكسب الانتخابات في دائرة غالبيتها من المسلمين، لأن هويته الوطنية تغلبت علي الاعتبارات الدينية.
كسر أسوار العزلة هو الذي يعمق الشعور بالمواطنة، وينمي الرغبة في المشاركة، وعندما يتصارع المتنافسون حول برامج انتخابية وليس شعارات دينية، نكون قد وصلنا إلي بداية الطريق الصحيح.
ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن مصر ليست وطنا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا.. تعيش فينا ونعيش فيها بالتسامح، تلك الدرع السحرية التي تحتوي الجميع.


كرم جبر


Email:[email protected]