حديث الشبشب!
عبد الله كمال
لم أنزعج من خبر نشرته الزميلة (الأخبار) في الصفحة الأولي بالأمس، قالت فيه إن محافظ المنوفية أحال سكرتير حي شرق إلي التحقيق لأنه وجده ينتعل (شبشب) حين كان يمر في جولة بالحي. وقد يقول قائل: هل انتهت كل المشكلات.. حتي يتفرغ المحافظ لهذه المسألة البسيطة؟! وسيكون مع القائل حق.. ولكنني أري أن الذهاب إلي العمل بـ(الشبشب) هو نوع من الاستهانة بالعمل نفسه.
وليس هذا الموظف وحده الذي يفعل ذلك.. ولو مر المحافظ وعديد من المحافظين غيره علي الدواوين المختلفة والإدارات المتنوعة لاكتشف أن فيها من يأتي أيضا إلي مكتبه بـ(البلغة).. وفي كثير من القري يذهب الناس إلي العمل بالجلباب وأحيانا بملابس يمكن اعتبارها ملابس بيت أو نوم.. وكنت أري المدرسين في قريتنا يفعلون ذلك.. وقد يذهبون إلي الغيط أولا وبنفس الملابس التي يقومون بها بإدارة الأمور أول النهار في الحقل و(الزريبة) يذهبون ليقفوا في طابور الصباح إن انعقد أصلا.
يفاجأ المحقق الذي سوف يستجوب الموظف بأنه لا يوجد نص قانوني أو إداري يشترط علي سكرتير الحي كودا معينا لملابسه في العمل.. وقد لا يفاجأ حين يقول الموظف إن مرتبه لا يكفي لأن يشتري أي حذاء.. وأنه لو لم ينتعل (الشبشب) لذهب إلي مكتبه حافيا.
الدور والباقي علي الموظفين في العواصم والقاهرة، الدواوين فيها من هذا كثير.. والمشكلة في السيدات.. حيث الشبشب أساسي والحجة هي أنه (موضة).. ويسهل الحركة.. ولا مانع من أن تري موظفا يرتدي حذاءَ رياضياً.. (كوتشي) يعني.. ولن أفاجئك إذا قلت لك إن موظفا رسميا كبيرا كان عضوا في وفد رسمي إلي إحدي الدول اللاتينية دخل علي مضيفيه مع من كان معهم وقد انتعل (كوتشي).. ولك أن تدرك مدي الحرج الذي كان فيه من حوله.. والواقعة قريبة وليست بعيدة ومن ذكريات التاريخ.. وهي مخجلة حتي لو كان هذا الحذاء الرياضي (براند) عالمي.. ومن طراز (نايك) أو (أديداس) أو (بوما).
المظهر أحد أهم معالم الجدية.. والتعبير عن الالتزام.. والتأكيد علي أنك منتبه إلي ما تقوم به.. وقد يكون مقبولا في واشنطن أن يذهب موظف إلي مكتبه بـ(الشورت).. هذه طبيعة المجتمع.. لكن بالتأكيد لن يفعل ذلك دبلوماسي أمريكي.. وفي مصر يمكن أن تجد عشرات من هذه الانفلاتات بحجة الحرية الشخصية.. أو عدم القدرة.. أو تسهيل الأمور.. وما (تدقش).. ومن ثم قد يذهب أحدهم إلي مكتبه بالجلباب والترينينج سوت ويطيل ذقنه.. ولا تجد إحداهن مانعاً من أن تذهب إلي العمل بالنقاب في حين أنها تتواصل مع الجمهور.
كان الموظف المصري قبل الثورة لا يذهب إلي مكتبه إلا وقد ارتدي بدلة كاملة.. ولكنه لم يعد كذلك.. وتبدلت الأمور وتاهت القواعد. فأصبح من الممكن أن يطيل ذقنه فلا يراجعه أحد.. ويعمل منكوش الشعر فلا يقال له ما هذا.. وبالتالي ليس غريبا أن يذهب سكرتير الحي في المنوفية إلي عمله بـ(الشبشب).. حيث يجب أن يحاسب رئيسه الذي قبل هذا قبل أن يحاسب هو علي ذلك.
ولكن كيف تحاسب الموظف علي (الشبشب) إذا كان مكتبه متربا.. والمبني الذي يعمل فيه بشبابيك مخلعة.. ودورات المياه غارقة في بقايا الصرف الصحي.. وزملاؤه لم يستحموا من أسبوع.. وليس أمامه (دباسة) ولا( خرامة).. ويستلف من زميل له في مكتب آخر حبر الختامة.. ويستعين بصديق لكي يحصل علي ورقة بيضاء يدون عليها تعليمات تلقاها ممن هو فوقه إداريا؟ المسألة كل متكامل.. حالة لا ينفصل فيها هذا عن ذاك.. عنوانها الانضباط الإداري برمة مكوناته.. وبمناسبة هذا الحديث أختتم بملاحظة لا علاقة لها بالأمر.. إذ أذكر جيدا درسا بليغا تعلمته من الأستاذ أحمد بهاء الدين في منتصف الثمانينيات.. حين كتب ـــ رحمه الله ـــ عدة أعمدة في الأهرام دعا فيها الناس إلي التخفف من الأحذية صيفا وانتعال الصندل.. ثم عاد بعد أيام وكتب أنه يعتذر عن الفكرة لأنه جرب أن يمشي في الشارع كيفما نصح فاتضح له أن شوارع القاهرة تحتاج إلي أحذية محصنة تحميه من المطبات والأتربة.
رحل أحمد بهاء الدين.. وبقيت المطبات والأتربة.. وصار الناس يرتدون (الشبشب) في المكاتب.. ليس لأنهم يتخففون ولكن لأنهم لا يلتزمون ويتساهلون ويستسهلون ولا يعبئون ولا يراجعهم أحد.
الموقع الإلكتروني : www.abkamal.net
البريد الإلكترونى : [email protected]