الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

تعتيم وإغفال على ذكرى «فؤاد حداد» أبو العامية المصرية




تعتيم وإغفال واضح لكنه غير مبرر من مؤسسات الدولة الثقافية وأيضا المستقلة لذكرى أبوالعامية المصرية المجدد فؤاد حداد الذى مر على وفاته 27 عاما، فلم يحدث أن أقيم مؤتمر أو مهرجان رسمى لإحياء ذكرى مسحراتى مصر فؤاد حداد.. فى انفعال وحزن، يقول أمين حداد ابنه: الدولة عليها ذنب كبير فى حق فؤاد حداد، والدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة للكتاب هو الوحيد الذى أصدر الأعمال الكاملة لوالدي، رغم أننى ومنذ فترة طويلة تقدمت بعدة طلبات لدور النشر القومية بداية من الدكتور سمير سرحان والدكتور جابر عصفور، التى أغلقت فى وجهى دون سبب واضح، فى المقابل كانت تأتينى عروض كثيرة من دور نشر عربية لنشر أعمال كاملة لكنها غير مناسبة فى حقه وتتجاهله مصر... فأى دولة فى العالم لديها شاعر بهذه القامة وممتد حتى الأجيال الجديدة وغير خريطة الشعر كلها لابد أن تهتم بأشعاره وذكراه.
 

 
يرجع أمين السبب فى ذلك حسب قوله إلى النظام الثقافى الفاشل، لأنه فى الستينيات كان هناك نظام ثقافى جيد إنما مع الأسف كان وقتها فؤاد حداد فى المعتقل، لكن مع بداية السبعينيات لم يحدث أى بناء ثقافى فى مصر ولم تعد هناك أية حركة ثقافية أو نقدية حتى أن أعمال صلاح جاهين بعد الستينيات غير موجودة... وأردف: فمنذ السادات ومبارك أصبحت الثقافة موجهة نحو السياسة العامة وهناك كارثة أخرى من جانب الصحفيين أن بعضهم ينصب نفسه قائد الثقافة، لكن لا يوجد لدينا حركة نقدية حقيقية، وكثيرا من الموهوبين «اتهرسوا» من التجاهل، فهناك شعراء كثر أعرفهم موهوبين وكان منتظر لهم مستقبل كبير لكنهم اليوم بعد مرور السنوات هجروا الشعر نتيجة للإحباط وتوجهوا لأنشطة أخرى!
 
فرقة «الشارع» هى الفرقة التى أسسها أمين حداد وابنه الشاعر أحمد حداد وسامية جاهين وبهاء جاهين وأعضاء آخرون من الموسيقيين والشعراء بهدف الحفاظ على تراث فؤاد حداد وتراث صلاح جاهين، التى فى كل عام تحيى ذكرى وفاته وميلاده...لكن هذا العام نظرا لمرض أمين حداد لم تقم الفرقة أية احتفالات خاصة بالذكرى. من مذكرات أمين حداد عن والده فؤاد حداد:
 
«كان على سريرى فؤاد حدَّاد
 
لابس الوطنية فوق البيجامة
 
«الطلق والتهنين ولادة فى الندى - أيام العجب والموت»
 
لقد أقلع عن التدخين منذ خمس سنوات (ديسمبر 1980) ومنذ شهر تقريبا قال لى وهو يبتسم ابتسامة حزينة «خلاص.. مفيش لب أبيض» لقد نهاه الطبيب عن قزقزته.
 
لا أجد فى ذاكرتى فى صور هذا اليوم سوى أغنية عيد الميلاد.. ولكن دموعى التى سالت لتوها تخلط بين الأيام والأحداث والصور.
 
ولكن تبقى لى عيناه العسليتان الجميلتان الصافيتان لا تنقطع منهما دهشة الطفولة وذهول العبقرية وذكاء نادر وطيبة تسع الجميع وتحب الجميع إلا الظالمين والأغبياء.
 

 
31 أكتوبر 1985
 
بعد أن عدت من العمل جلست أقرأ لأمينة قصيدة كتبتها فى الصباح عن عمرنا المسروق فانفجرت باكية. وقرأتها لأبى فقال لى إن الإحساس فى هذه القصيدة مثل الإحساس بتغير الفصول إحساس مخيف وغير مفهوم.
 
فى الليل أجلس أمامه على السرير عند قدميه. وهو يشكو من الطريقة التى نشرت بها مجلة الغد قصيدته فى رثاء حسن فؤاد. كان غاضبا جدا وقال إنهم لا يعرفون قدري. ربنا بس يطول فى عمرى وأقدر اخلص كتاب «المكاحلة والمعاماة».
 
1 نوفمبر 1985
 
مات فؤاد حدَّاد!
 
النقاد والكتّاب
 
ربما يرى النقاد والمهتمون بشعر فؤاد حداد تفسيرا لتجاهل الدولة لتراثه الشعرى وماقدمه من إنتاج شعرى غزير، فى نبرة مليئة بالحسرة والسخرية اللاذعة لصوت الشاعر سمير عبدالباقى صاحب رواق العامية بأتيليه القاهرة الأسبوعى الذى سيحتفل فى الخميس الأخير من نوفمبر الجارى بذكرى فؤاد حداد يقول : أنتم الصحفيون للأسف الشديد اهتممتم بالنتائج وتناسيتم الأسباب الحقيقية للتجاهل!..فأين هو فؤاد حداد منذ أن كان حيا وبعد وفاته من الحياة الثقافية؟...لم يهتم به أحد سوى أبنائه وأصحابه، فالحياة الثقافية مريضة..ليس لها وجهة نظر..لا أحد يتذكر فؤاد حداد... حتى «المسحراتى» اختفت من التليفزيون المصرى وكأنه ليس لها قيمة!!...ثم صمت قليلا واستأذن فى إنهاء المكالمة...عبدالباقى كتب فى فؤاد حداد
 
ساكن فى قلبى فؤاد حداد
 
صاحى بيفتل حبل وداد
 
صاحى بيفتل ما بيفتيش
 
طول عمره زى ما مات بيعيش
 
مسنود على ريح الأجداد
 
الناقد عمر شهريار يقول: فؤاد حداد هو شاعر العامية السامق، غزير الإنتاج، الذى التصق بأبناء هذا الوطن، وعجن شعره بعرقهم، وصاحب التيار التجديدى الفارق فى الشعرية المصرية، بحيث يمكنك أن تقول مطمئنا إن شعر العامية بعد حداد شيء مختلف تماما عما قبله، فقد كان علامة فارقة على المستوى الشعرية المصرية، كما كان صاحب موقف سياسى وأيديولوجى واضح.
 
 

 
ولعل موقفه السياسى واحتفاءه بالمهمشين هو ما جعل الدولة بطابعها التسلطى تسعى لإهماله وتجاهله، نظرا لما يمكن أن يمثله شعره من طابع تحريضي، وفى الوقت ذاته تتجاهل شريحة الفقراء والمعدمين الذين صور حياتهم فى نصوصه، حيث كان هؤلاء يمثلون بطولة المشهد الشعرى لديه، ومن ثم فإن الدولة آثرت أن تتجاهلهم أيضا، عبر تجاهل شعره، وكأنه غير متاح لهم أن يكونوا أبطالا ولو فى قصيدة شعرية، حتى إن نصوص «المسحراتي» التى انفلتت من قبضة الدولة لتنتشر بين الجماهير جرت محاولات عدة لاحقة لاستنساخها من قبل شعراء آخرين لمحاولة محو الأصل و«الشوشرة» عليه، وكانت الدولة تصر على عرضها سنويا وكأنها تستدرك موقفها لتصحح ما حدث له من شهرة فى غفلة من قبضتها الحديدية.
 
ولعله من المحزن أن الأعمال الكاملة لشاعر فى قامة حداد لم تصدر سوى من فترة وجيزة، وهو الذى يجب أن تعاد أعماله كل فترة وجيزة، ويتم تدريسها فى المدارس والجامعات للارتقاء بالذوق الجمالى للأجيال الجديدة والارتقاء بعاميتهم، لكن السلطة دوما تخشى أن تتسرب انحيازاته إلى الأجيال الصاعدة لذلك تتجاهله حتى فى أقسام اللغة العربية وآدابها فى الجامعات، كجزء من تهميش العامية ككل.
 
لو كان حداد فى بلد آخر لا تعاقب الشاعر على انحيازاته لأقيمت له التماثيل فى الميادين العامة، وأصبح منزله متحفا ومزار سياحيا، ولأقيمت المسابقات الشعرية باسمه، لكن هذا لم يحدث وأظنه لن يحدث لأن الدولة لم تتغير من حيث طابعها السلطوي، بل ربما أصبحت أكثر سلطوية.
 
الروائى والكاتب الراحل خيرى شلبى فى كتابه «صحبة العشاق» يصف فؤاد حداد « باضت مصر على شاى النيل بيضة كبيرة مارونية شامية شربت الطمى حتى اتخمت، وفقست على الشطان شعرا مصريا خالصا.
 
إذا كان بيرم التونسى من أصول تونسية بعيدة، وفؤاد حداد من أصول شامية بعيدة، فإن كلاهما تجسيد وتشخيص للمزاج المصرى الخالص وكلاهما تشخيص لسر مصر الحضارى العظيم، للحلم المصرى الشاهق بالأرض التى تتكلم العربي، بقول الله : إن الفجر لمن صلاه.
 
أول كلامى سلام، وتزققينى الكلام أيام فى حضنك أنام، القلب الأبيض هنا، مصر يا أمنا، وأطلع فى نور الأدان، إذا دعا الوالدان، المدرسة والميدان، والإنسانية هنا، يا مصر يا أمنا.
 
قام فؤاد حداد بتمصير الشعر.
 
نعم! تلك عبارة ليست من قبيل الحماسة أوالتلاعب بالألفاظ، لكنها من الحقيقة.
 
 

 
....تجمعت فى عبقرية فؤاد حداد مواهب كل شعراء العربية قدامى ومحدثون، كما استفادت مواهبه من المفهوم الحضارى الحديث المتطور لفن الشعر مدعوما بمنجزات كبار شعراء العالم الذين قرأهم بإمعان واستيعاب تبلورت فى شعره كل خصائص الشعر العربى قديمه وحديثه، وعنده قصائد من الشعر الكلاسيكى يمكن تقديمها كدليل معاصر وقوى على أن العمود الخليلى كان ولايزال يحمل إمكانية التطور الخلاق...مهمة جليلة قام بها فؤاد حداد فى بساطة دون طنطنة؛ أزال حاجز الغربة بين المتلقى والثقافة العميقة المعاصرة، فالثقافة العميقة تغترب دائما فى المجتمعات النامية نتيجة لحذلقة المثقفين وعجزهم عن إيجاد لغة جيدة التوصيل قادرة على البث المباشر. وقد نجح ابن حداد فى إزالة هذا الاغتراب، بأن أعاد تصفية اللغة التى نمارس الحياة بها، اعاد ترتيبها من جديد فى أنساق جديدة تتبنى رؤية جديدة وصورا جديدة ومشاعر طازجة تترسخ منها ثقافة جديدة عالية القيمة.
 
انا كنت ماشى اقول أيوب لما ابتلى
 
ما بين بيوت الأصول والعلم بالمسألة
 
الاقى تحت الحمول نفسى فى عرض الخلا
 
افضل أنادى على
 
صبر وامانى وقافية خير ملازماني
 
وياما نفسى اشترت منى وباعت لي
 
فى تلتمية سنين الحكم عثمان
 
وماكنتش أقدر أكمل لولا إيماني
 
ولولا طول الليل
 
لم يكن فؤاد حداد يحب مصطلح شعر عامية رافضا للتصنيف فهو شعر فقط وذلك من واقع فهمه للهجة العامية إنها ابنة اللغة العربية، ولا أحد يفرق بينهما لأننا فى النهاية نحن نتحدث العربية على اختلاف أشكالها، فلغة الحديث التى نتحدثها لها عبقريتها كالعربية...فؤاد حداد استطاع التجديد فى كتابة الشعر باللهجة العامية وطور فى هذا القالب ربما فى «المسحراتى» و«الحضرة الذكية» بان جعل الراوى يروى بالشعر أيضا وليس السرد، وكانت له قصيدة فى بيرم التونسى يصفه بأنه كان شيخ العرب حين كانت مصر تريد التمصير، لأنه كتب المقامات والشعر،
 
فى «المسحراتى» أخذ فؤاد حداد النغمة الأساسية له ونسج فى داخلها الموال: «وأنا صنعتى مسحراتى...فى البلد جوال.. حبيت ودبيت كما العاشق جوال... وكل حتة من بلدى..حتة من كبدى... حتة من موال..».