السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«الإكراميات» سيد الموقف فى المستوصفات للشهادة المزورة

«الإكراميات» سيد الموقف فى المستوصفات للشهادة المزورة
«الإكراميات» سيد الموقف فى المستوصفات للشهادة المزورة




تحقيق - سمر حسن

 

«بلد بتاعت شهادات صحيح».. فقد طال الفساد والتزوير الشهادات الصحية التى يتم تقديمها للمصالح الحكومية والمختومة بختم الدولة من الوزارات والجامعات الرسمية، حيث يتم توقيع الكشف الطبى مقابل رشوة بسيطة للموظف، لتحصل بعدها على ما يثبت أنك خال من أى مرض أو علة ولائق للوظيفة، أو الحصول على شهادة تقدم لجهة ما بغرض الحصول على تسهيلات معينة، وما يترتب عليها من عواقب وخيمة.

«الشهادات المضروبة» خطر يهدد مستقبل الأمة بأكملها، فحصول الشخص غير المناسب على الوظيفة يؤثر على الكفاءة والأداء، وأيضا يتسبب فى تحطيم طموح العديد ممن تقدم للاختبار ويستحق الوظيفة فعلا، ليتحول الشخص السوى إلى عدو للمجتمع، ويظن أن التزوير والغش هو السبيل الأقوى من أى سيرة ذاتية.

البزنس الخفى داخل المستوصفات والمراكز الطبية لا يقتصر على بيع شهادات طبية مضروبة فقط، ولكن انتحال طاقم التمريض صفة طبيب، والتوقيع وكتابة رقم القيد بدلا من الأطباء، وبذلك يُمارس التزوير داخل تلك الأكشاك، والسؤال هنا: هل يتم ذلك بعلم الطبيب المُنتحل شخصيته مقابل راتب شهرى وتوفير وقته وجهده للاستفادة منه للعمل فى مكان آخر.. أم دون علمه؟
قد يبدو الأمر سهلا فى الظاهر وهو إعطاء شهادة صورية لشخص ما، ولكن فى الحقيقة ما يحدث أمر كارثى، فهو باب للجرائم، وإزهاق أرواح أبرياء، وتزوير فى أورق رسمية.. وفى جولة قامت بها «روزاليوسف» فى عدة أماكن ﻻستخراج الشهادات الصحية وجدنا فسادا يطفو على السطح.. الرشاوى والإهمال يخرجان لسانهما للجميع، وحتى لا يكون الكلام مرسلا نروى ما حدث مع مجموعة من المتطوعين معنا تمكنوا من استخراج الشهادات «المضروبة» لأهداف مختلفة.
المتطوعون
ذهبت المتطوعة نوال يحيى - 55 عاما ربة منزل - إلى الإدارة العامة للمرور بالدقهلية لتقدم طلب حصول على رخصة قيادة، وحتى يكتمل الملف الخاص بها كان لزاما عليها إحضار شهادات طبية تفيد خلوها من أمراض الباطنة، وسلامة النظر، وفصيلة الدم الخاصة بها من إحدى المستوصفات الطبية التى صرحت لها مديرية الشئون الصحية بالمحافظة بالقيام بهذه المهمة، بالفعل اتجهت إلى «جمعية الشبان المسلمين بالمنصورة، والمشهرة برقم 393 لسنة 1967» وكان برفقتها محررة روزاليوسف لننقل صورة من صور الفساد المتسببة فى إزهاق أرواح الأبرياء يوميا على طرق المحروسة.
عندما تصل لتلك الجمعية لا تجد أى لافتة تدل على وجود مستشفى بهذا المكان، فهو مكان له 3 أبواب وبمجرد دخوله تجد عاملا يسألك قائلا: «عايزة شهادات الرخصة أدخل آخر الطُرقة يمين فى شمال» وبالفعل سرنا فى الاتجاه الذى وصفه لنا، فى النهاية يوجد مكتب خلف سور حديدى به 3 موظفات، وحتى وصلنا لهذا المكتب لم يقابلنا ولو مريض واحد، فالمكان خاو على عروشه ولا يوجد به أى أطباء أو مرضى باستثناء طالبى شهادات رخصة القيادة.
بخلاف ذلك، يلتف السماسرة حول المستوصف لابتزاز المواطنين الراغبين فى استخراج الشهادات.. التف بعضهم حولنا مرددين «اتفضلوا ارتاحوا واحنا هنقوم بكل الإجراءات بدلا منكم» واستمر الحوار بيننا وبينهم، ثم سألناهم عن كيفية استخراج الشهادات للسيدة المتطوعة والتى تعانى من ضعف البصر، وكان الرد «ادفعوا100 جنيه فقط وبعد 10 دقائق هتكون الشهادات جاهزة»، ولكن اختلفنا على المبلغ وكانت حجتنا أن الرقم مبالغ فيه، إلا أنهم أكدوا لنا أن استخراج شهادات بغير علة مرضية فى المريض بـ70 جنيها، ومن لديه علة بـ100 جنيه، وأن هذا المبلغ يتقاسم فيه السمسار مع من يحرر الشهادات من العاملين، ومع من يقوم بتحرير إيصال الدفع وختم الشهادات عقب تحريرها، فأجبنا بأننا موافقون إلا أن المبلغ غير متوافر معنا فى هذا الوقت، وأننا سنعود غدًا ليستخرجهم لنا.
طابور الرشوة
عاملون بالمستوصف يقومون بكل شىء، وكان هناك عدد ممن يريدون إجراء الكشف الطبى اللازم للحصول على الشهادات التى تقدم لإدارة مرور الدقهلية لإصدار رخصة قيادة.. الكل يقف فى طابور لدفع الرسوم وقيمتها 35 جنيها، وبنفس الترتيب يدخلون إلى حجرة الكشف الباطنى، ومنها لكشف العيون لقياس حدة النظر، ومعرفة أن كانت تسمح له بالقيادة أم لا، ثم الدخول إلى الغرفة الثالثة والأخيرة والمخصصة كمعمل تحاليل لمعرفة فصيلة الدم.
تجلس واحدة من الممرضات على مكتب الطبيب وتحرر الشهادة وتوقع عليها بدلا من الطبيب، وحينما ترفع يدها لتسليمها قائلة وهى تضحك «من غير كشف ولا تعب اتفضل الشهادة وليا الحلاوة» يأخذها طالبو الشهادة منها فى مقابل إعطائها إكرامية ما بين 10 و 20 جنيها كل حسب تقديره وحالته المادية، وهكذا إلى أن ينتهى الطابور والذى ينتقل بنفس الترتيب لغرفة كشف الرمد، حيث تقوم إحدى الممرضات بكتابة التقرير على نفس النحو للجميع ويفيد بأن النظر 6/6، ولا يعانى من أى مشاكل خاصة بالنظر.
على الرغم من أن الحالة المرافقة لنا تعانى من ضعف الرؤية الليلية والتى تعيقها من رؤية الأشياء بوضوح فى الليل، فإنها حصلت على تقرير يفيد بحدة نظرها، وقدرتها على تمييز الألوان، ولا مانع من استخراج رخصة قيادة، لتضيف سببا آخر لحوادث الطرق التى أقرها مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء وهو انعدام الضمير لدى الأطباء، وإعطاء مصابة بعمى ليلى شهادة تثبت حدة نظرها، والكارثة الأكبر حينما علمنا بأن معظم الشهادات الطبية المقدمة ﻹدارة مرور الدقهلية تستخرج من هذا المكان.
أما الطابور الثالث فحينما ذهبت صاحبة الطلب وباقى المتقدمين لمعرفة فصيلة الدم الخاصة بكل شخص منهم لتكتب فى الرخصة، بحيث إذا تعرض السائق لحادث يتم إسعافه بنقل كيس دم مطابق لفصيلته، فتقوم بكتابتها واحدة من الممرضات دون إجراء التحاليل اللازمة، لتجد نفسك فى النهاية أمام مافيا نصب واحتيال وأن هذه الجمعية عبارة عن كشك لبيع الشهادات المزيفة، دون ممارسة أنشطة طبية أخرى صالحة للمرضى، وعلى أرض الواقع هى خالية من الأطباء والمرضى من غير طالبى هذه الشهادات.
مشاجرات مع التمريض
أما سالى عبدالله - ربة منزل 33 عاما - فذهبت لاستخراج نفس الشهادات من الجمعية السالف ذكرها، وبنفس الطريقة والخطوات كما ذكرنا سابقا، ولكن تجمع طالبو الشهادات فى نفس الحجرة، حيث قامت الممرضة بتحرير الـ3 شهادات الخاصة بكل شخص فى نفس الغرفة، ولكن وقت أخذ عينة الدم لتحديد الفصيلة كان بصحبتها شقيقتها، وطلبت سحب عينة منها طالما أنها دفعت ثمن الكشف، فهى لا تعرف فصيلة الدم الخاص بها، ولكن طاقم التمريض والقائم بكل الأعمال رفض تمامًا، وبعد مشاجرات وافقوا ولكن بعد دفع مبلغ «رشوة» للممرضة تحت مسمى «إكرامية»، فدارت بينهما مشاجرة حيث رفضتا دفع أى مبلغ إضافى، مهددين بالاتصال بالنجدة لاثبات الواقعة، ولكن بعد تدخل الموجودين بالمكان انتهى الأمر.
أكد طاقم التمريض أنهم مستعدون لأخذ العينة ولكن من المتقدمة لطلب الشهادات «المتطوعة» أما شقيقتها فإن أرادت فتقوم بدفع رسوم وأخذ إيصال لإجراء التحليل، فتشاجروا من جديد وأكدت المواطنة لهم إن لم يتم أخذ العينة من أختها بدلا منها ودون دفع أى رسوم فلن تتنازل عن إجراء جميع الكشوفات لها ولكل الموجودين، وفى النهاية قاموا بأخذ العينة من أختها بدلا منها لتمرير المشكلة.
«المنصورة العام»
الشهادات الطبية تباع وتشترى لأعلى سعر وكأنه سوبر ماركت، ويتواجد حول المبنى عدد من السماسرة، بخلاف المتواجدين فى الداخل.. هذا المستشفى التى فتح أبوابه «سداح مداح» من أجل الحصول على شهادة طبية، لأخذ إجازة، أو للتقدم لوظيفة، وتسهيل غير ذلك من المهمات التى قد تتسبب فى وفاة شخص، أو انهيار مؤسسة بأكملها.
مصطفى حسن - 28 عاما حاصل على معهد سياحة وفنادق - طلبت منه إحدى الشركات شهادة طبية معتمدة من مستشفى تابع لوزارة الصحة، فذهب إلى مستشفى المنصورة العام، لم يلتق بطبيب، وكان المرضى يملأونها، كان التمريض من يتعامل مع الزوار كم المرضى ويجيبون على استفساراتهم، فأخبر واحدة منهم على رغبته فى الحصول على شهادة بخلوه من أى مرض، فقالت له أنها ستخبره كيفية الحصول على شهادة صحيحة خالية من أى أمراض حتى وإن كان مصابا مقابل إكرامية 50 جنيها، بالفعل أعطاها المبلغ ودلته على سمسار الشهادات.
مفتاح السمسار
ذهب إلى مكانه وهو «محمد حنفى، الشهير بمحمد مفتاح» وهو سمسار تخليص الشهادات مقابل رشوة تقسم بينه وبين بعض العاملين بالمستشفى الذين يقومون بتخليص الشهادة، طلب منه 600 جنيه، وبالفعل أعطاه المبلغ، واتجهوا إلى المستشفى من الداخل، ثم طلب منه الانتظار لبضع دقائق حتى العودة، وعندما أتى كان برفقته ممرضة وعامل من المستشفى، اصطحبوه إلى عدة مكاتب فقط ينظر إليه الطبيب الموجود بالغرفة ويحرر تقريره أنه معافى وذلك دون إجراء أى فحص طبى.
تكرر هذا الأمر فى كل الفحوصات الأخرى إلى أن جاء وقت الكشف على الصدر، فرغم أنه مدخن ويعانى من حساسية والتهابات فى الجهاز التنفسى، إلا أن التقرير الطبى أفاد أنه سليم ولا يعانى من أى مرض صدرى، إلا أن جاءت سيدة ترتدى البالطو الأبيض ولا يعلم إن كانت طبيبة، أو ممرضة، أخذت التقرير بمفردها ودخلت حجرة مدير المستشفى للتوقيع على التقرير، وبعد دقائق عادت به مختوم وموثق بتوقيع المدير، وأثناء تسلمه الشهادة، أخبره السمسار أنه يستطيع الحصول على أى شهادة أو تقرير طبى طالما أنه يدفع المبلغ المطلوب.
تأمين سيارة
هشام عطية - 47 عاما صاحب شركة - روا لنا قصة حصوله على شهادة طبية من داخل مستشفى الجامعة، قائلا لدى سيارة خاصة باهظة الثمن، ولذلك قمت بالتأمين عليها، وكل سنة يتجدد التأمين ولكن يشترط حضورى لتجديده، إلا أننى لم أتذكر ضرورة حضورى لتجديده ظنًا منى أنه يجدد تلقائيًا، ولكن علمت بعد ذلك أنه لم يجدد وإن لم أُقُدم عذر بالمستندات عن عدم حضورى لن أتمكن من تجديده أو استرداد القيمة السابقة، فأخبرتهم بأنى كنت مريضا وقدمى مصابة بكسر، فطلبوا منى شهادة طبية معتمدة تُثبت ذلك، فى بداية الأمر أحضرتها من طبيب خاص، إلا أنهم رفضوا، مؤكدين أنها لابد أن تكون معتمدة من وزارة الصحة أو أحد مُديرياتها، إلى أن أخبرنى صديق لى بإمكانية استخراجها من مستشفى المنصورة الدولى بمقابل مادى، واستطرد: لم أذهب إلى المستشفى، وفقط أرسلت صورة شخصية وصورة البطاقة مع صديقى بالإضافة لمبلغ 1000 جنيه، وبعد 3 أيام أحضر لى الشهادة، وتابع: قمت بتقديمها لشركة التأمين وبالفعل قُبلت، وجددوا التأمين لى دون مشكلة.
سُمية محمد - 42 عاما موظفة فى مستشفى خاص للأطفال - تغيبت عن عملها فترة وأرادت أن تُثبت فترة مرضها حتى لا يتم الخصم من راتبها، ولكن لابد من عرض تقارير طبية مرفقة بشهادة طبية تثبت مرضها، فحملت الأشعات الخاصة بوالدتها المريضة بانزلاق غضروفى، وأرفقت شهادة طبية «مضروبة» باسمها، والتى قامت بشرائها لجهة العمل.
وواصلت أنا أعمل فى مستشفى «س. الخاصة» ولكن علمت أيضًا أنه لا يجوز تحرير التقرير من العيادة الخاصة لأى طبيب، فسألت إحدى الممرضات كيف يمكننى الحصول على هذا التقرير وخصوصًا أنها تعمل فى مستشفى عام فترة صباحية، وفى المستشفى الخاص وردية ليلية، فأخبرتنى بأن لديها صديقة تعمل فى مكتب المدير يمكن أن تُسهل تلك المهمة مقابل «إكرامية»، وأجرت اتصال بزميلتها هذه وطلبت منها أن نذهب للمستشفى فى اليوم التالى ونحضر معنا صورة البطاقة الشخصية، والأشعة، وصورة شخصية، وبالفعل ذهبنا لها وأخذت الأشعة وحررت تقريراً يثبت الموجود بالأشعة ولكن مع وضع اسمى بدلا من اسم والدتى، وتابعت: قمت بتقديمها لجهة عملى ووافقوا على طلب الإجازة، ولكن عندما أردت أن أعطى «الإكرامية» لتلك الممرضة كان ببالى أن تأخذ على أقصى تقدير 200 جنيه، إلا أنها طلبت 400 جنيه، مؤكدة أنها خفضت لى السعر مراعاة لزميلتها التى أتت بى إليها، وتواصل: اضطررت إلى الدفع حتى أتجنب أى مشكلة يمكن أن تفعلها الممرضة لى فى عملى، ويفُتضح الأمر.
أكد إيهاب الطاهر - أمين عام نقابة الأطباء - على خطورة إصدار شهادات طبية وهمية ودون إجراء كشف طبى يوضح أن الشخص لائق أو غير لائق، فالأمر هنا قد يودى بحياة الشخص ذاته، وطالب بضرورة تشديد الرقابة، وزيادة الحملات التفتيشية على كل المراكز الطبية حفاظًا على حياة المواطنين.
وتابع الدكتور صابر غنيم - رئيس الإدارة المركزية للتراخيص والمنشآت غير الحكومية بوزارة الصحة - أن هناك عدة ضوابط تحكم إصدار تراخيص للمنشآت الصحية، وأنه على المواطنين تحرى الدقة قبل استلام تلك الشهادات، ورفض استلامها دون إجراء الكشف، وأوضح أن الشهادة لابد وأن يكون مختوما عليها بترخيص المكان، وموقعا عليها من قبل الطبيب، ومكتوبا عليها رقم قيده، وشدد على معاقبة المخالفين للقانون، وشن حملات سرية لضبطهم، وإحالة المخالفين للقانون لينالوا العقاب.