الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«ذبابة فى الحساء» سيرة الشعر والحرب لتشارلز سيميك

«ذبابة فى الحساء» سيرة الشعر والحرب لتشارلز سيميك
«ذبابة فى الحساء» سيرة الشعر والحرب لتشارلز سيميك




كتب - إسلام أنور


صدر حديثا عن دار الكتب خان للنشر بالقاهرة، كتاب «ذبابة فى الحساء»، السيرة الذاتية للشاعر الأمريكى تشارلز سيميك من ترجمة إيمان مرسال.
 تبدأ السيرة بطفولة سيميك فى مدينة بلجراد أثناء الحرب العالميّة الثانية؛ حيث تجربة الجوع وويلات القصف والزجاج المهشّم جنباً إلى جنب مع الحريّة ومباهج اللعب التى توفرها مدينة مُدمّرة. فى باريس، يستعيد سيميك إدراكه المبكر لمأساويّة أن يكون المرء لاجئاً ومنبوذاً؛ فيكتب عن تشرّده مع أمه وأخيه، وعن مدرَسته الفرنسيّة المُخصّصة للفاشلين، وعن هروبه من الواقع إلى السينما، عن هذه الفترة يقول سيميك «أسرتي، مثل أسر أخرى عديدة، تمكنت من أن ترى العالم مجاناً، والفضل يعود لحروب هتلر وسيطرة ستالين على أوربا الشرقية. نحن لم نكن متعاونين مع الألمان، ولا كنا من المنتمين إلى الطبقة الأرستقراطية، كما لم نكن بأى معنى من المنفيين السياسيين. عديمى الأهمية كُنا، لم نقرر شيئا لأنفسنا. كل شيء رتبه قادة العالم فى وقتها. كالكثير من النازحين لم يكن طموحنا يتعدى حدود مدينتنا بلجراد. كنا على ما يُرام مع ذلك. اتفاقيات عُقدت حول مجالات النفوذ، حدود أعيد ترسيمها، وما يسمى بالستار الحديديّ تم إسداله، ونحن رحَّلونا مع أغراضنا القليلة. ما زال المؤرخون يوثقون جميع الخيانات والرعب الذى واجهناه كنتيجة لمؤتمر يالطا وغيره، والموضوع أكبر من أن ينتهي» .
ويضيف «كما هو الحال دائماً، كان هناك تفاوت فى درجات الشرّ وتفاوت فى درجات المأساة. لم تتعرض أسرتى لمعاناة مُريعة كالآخرين. أعاد الحلفاء إلى ستالين مئات الآلاف من الروس الهاربين ضد إرادتهم، كان الألمان قد جلبوهم قبل ذلك قسراً ليعملوا فى مصانعهم ومزارعهم. قُتل بعضهم والبقية تم شحنها إلى معسكرات السُّخرة حتى لا يُلوثوا بقية المواطنين بما اكتسبوه حديثاً من مفاهيم رأسمالية منحطة. توقعاتنا كانت أكثر ورديّة. تمنيّنا أن ينتهى بنا الحال فى الولايات المتحدة أو كندا أو أُستراليا. لم يكن ذلك مضموناً. كانت أسهم معظم بلاد أوربا الشرقية منخفضة على عكس بلاد أوربا الغربية. السُلاف الجنوبيون، كانوا فى عيون خبراء الجينات الأمريكيين وواضعى قانون الهجرة من الأعراق غير المرغوب فيها إطلاقاً». ينتقل سيميك بعد ذلك ليرصد تفاصيل رحلته كمهاجر تفضحه لكنته كلما فتح فمه، مع ذلك يكتشف موسيقى الجاز والرسم والقراءة، بل ويعمل مصححاً للإعلانات فى شيكاغو صن حيث يحلم بكلاب ضائعة وجنازات. تقدم السيرة شهادة سيميك، واحد من أهم الشعراء المعاصرين، عن المشهد الأدبى فى شيكاغو ونيويورك فى النصف الثانى من الخمسينيات، وبحثه عن صوته الشعريّ، عن أهميّة تجربته كمجند فى الجيش الأمريكى بين نيوجيرسى وألمانيا وفرنسا فى أوائل الستينيّات من القرن الماضى فى الوصول إلى هذا الصوت، يقول سيميك «قصتى قصة قديمة وأصبحت الآن مألوفة. لقد تشرّد كثيرٌ من الناس فى هذا القرن. أعدادهم مهولة ومصائرهم الفردية والجماعية متنوعة، سيكون مستحيلاً أن أدّعى تميّز وضعى كضحية، أنا أو أى شخصٍ آخر، إذا أردتُ الصدق. خاصةً أن ما حدث لى منذ خمسين سنة يحدث لآخرين اليوم. رواندا، البوسنة، أفغانستان، كوسوفو، والأكراد المهانون ـ بصورة لا تنتهى  وهكذا يستمر الحال. قبل خمسين سنة كانت الفاشية والشيوعية، الآن هناك القومية والأصولية الدينية مما يجعل الحياة لا تطاق فى أماكن كثيرة. فى الآونة الأخيرة ـ على سبيل المثال ـ كنت أترجم قصائد من سراييفو لأنطولوجيا شعرية، واجه محرّروها صعوبات كبيرة فى العثور على الشاعرة التى كتبتها. لقد اختفت. هى لم تكن مغمورة، كان لديها الكثير من الأصدقاء، لكن لا أحد يعرف ما حدث لها فى فوضى الحرب.
ويضيف « الهجرة، المنفى، أن تكون بلا جذور وأن تصبح منبوذاً، ربما يكون ذلك أكثر الطرق المبتكرة لإقناع الفرد بالطبيعة الاعتباطيّة لوجوده أو وجودها. لسنا فى حاجة إلى طبيب نفسيّ أو مُرشد روحيّ طالما أن كل من نقابلهم يسألوننا من أنتم بمجرد أن نفتح أفواهنا ويسمعون اللكنة.الحقيقة أننا لم نملك إجابات واضحة. بعد ترجرجنا فى القطارات المخيفة وفوق الشاحنات والسفن التجارية المتهالكة، أصبحنا لغزاً حتى لأنفسنا. فى البداية، كان ذلك صعباً علينا، ولكن بمرور الوقت بدأنا نعتاد على وضعنا الجديد. بدأنا نستطعمه ونستمتع به. بدا لى شخصياً أن كونك لا أحد أكثر إثارة من أن تكون شخصاً ما. الشوارع كانت مليئة بأولئك الأشخاص المهمين وهم يصنعون أجواء الثقة حولهم. نصف الوقت كنت أحسدهم، نصف الوقت كنت أنظر إليهم فى شفقة. لقد كنت أعرف شيئاً لم يعرفوه، شيئاً من الصعب معرفته إذا لم يركلك التاريخ بقوة فى مؤخرتك: كيف يبدو الأفراد غير ضروريين وعديمى الأهمية ضمن أى صورة كبيرة! كيف أن هؤلاء القُساة لا يفهمون احتمال أن يكون ذلك هو مصيرهم أيضاً».
ويكمل «علمتنى حياتى أن التخطيط للمستقبل مضيعة للوقت. اعتاد أبى أن يسألنى مازحاً: «إلى أين ستهاجر المرة القادمة؟». ما زالت تجربة القرن العشرين فى المنافى مستمرة. مَن هم مثلنا كانوا حيوانات تجارب. أغرب ما فى الأمر، أن يقوم واحد من فئران التجارب بكتابة الشعر»
تمتلئ سيرة سيميك بحكايات بديعة عن تاريخ أسرته، عمن عرفهم من شعراء واعدين اختفوا فى الحياة، عن الصداقة والطعام والموسيقى والفلسفة، حتى عن وجوه لعابرين ما زال يتذكرها بعد كل هذه السنوات. وفى نثره كما فى شعره، تدفعنا قراءة سيميك للتذكّر والتخيّل والاستمتاع والضحك.
تشارلز سيميك شاعر أمريكيّ من أصل صربيّ، من مواليد بلجراد ١٩٣٨. أصدر أكثر من سبعين كتاباً بين شعر ونثر وترجمة. اختارته مكتبة الكونجرس أميراً للشعراء فى الولايات المتحدة الأمريكيّة ٢٠٠٧، كما حصل على العديد من الجوائز منها بوليتزر ١٩٩٠، جريفين ٢٠٠٤، وجائزة والاس ستيفنز فى ٢٠٠٧. يعمل سيميك أستاذاً للأدب بجامعة نيوهامشر.
إيمان مرسال شاعرة مصريّة وأستاذ مساعد الأدب العربيّ ودراسات الشرق الأوسط بجامعة البرتا، كندا. من كُتبها «جغرافيا بديلة» ٢٠٠٦، و«حتى أتخلّى عن فكرة البيوت» ٢٠١٣. يصدر مشروعها السرديّ عن الأمومة فى خريف ٢٠١٦، ضمن مشروع «كيف تـ» بالتعاون مع مؤسسة مفردات.