السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

النـــوم الحـرام

النـــوم الحـرام
النـــوم الحـرام




كتبها - زين شحاتة

 

باح كل  جمعة تدعـــو أمى سيدات قريتنا،  لمساعدتها فى أعداد المخبوزات والمعجنات وقـــود رحلتى الأسبوعية إلى الجامعة بالتوازى مع أوزة ثمينة يشرف أبى على مراحل إعدادها من خلال الرسائل الصوتية التى يرسلها إلى أمى من مجلسه بالشارع فالأوزة تتمتع بشهرة فى قريتنا أكثر من عمدتها ليس لمجلس أبى المكتظ بالرجال فحسب بل كون مجلسه يطل على مسجد القرية.
عند دقات السابعة مساءً تبدأ مراسم السفر حيث تصطف أسرتى وجميع أقاربى وبعض صديقات أمى وأصدقاء أبى لمصافحتى وتوديعى، وكنت أحرص على مغادرة المنزل قبل موعد القطار بساعات ليتثنى لى مصافحة وتوديع أهل القرية فأنا أول من خرج من هذه القرية الصغيرة إلى الجامعة بغض النظر عن موقع كليتى فى سلم كليات الجامعة، وكنت أفضل ذلك القطار البطيء الذى يتوقف فى جميع المحطات بل وغير المحطات، لأن هذا النوع من القطارات يوفر لى اللوحة التى أهــرب بها من الواقع إلى  أحلام اليقظة  التى أحلق فيها على أعلى قمم الهيئة الاجتماعية.
وذات مرة جلست كعادتى بجوار النافذة قطار أرث الاحتلال البريطانى وأغمضت عينى عن الحقيقة وتركت لذهنى العنان ليبدأ فى نسج أحد أحلام اليقظة  جلس أمامى رجل مسن طيب الملامح يرتدى ملابس ريفية تدل عن فقــــر مدقع وظل يتأملنى فى خلسة وأنا أراقبه من بين رموش عينى المفتوحة على استحياء حتى هدم جدار الصمت بقوله: أنت نايم ليه؟ نومك حرام!
فانتفضت مستعرضاً عربة القطار فلم أجد غيرى ليستقبل هذه الكلمات الهادئة فى نبرتها والصاخبة فى معانيها فأجبته فى سخرية ممزوجة بالتعجب:  تعبان شوية؟
بهذا الحوار بليغ المعانى إستدعانى هذا الفلاح العجوز من عالمى إلى عالمه وشرع فى سرد قصته التى بدأت فى قصر مهيب ومزرعة مترامية الأطراف تعجز الأبصار عن إدراك حدودها وكيف؟ أصبح بدون تعليم وخبرة حياتية فريسة للمستغلين وضعاف النفوس من أصدقاء الســـوء وأنه أدرك بعد فوات الأوان قيمة العمل والسهر من أجل حلم أو هدف وأن المال مهما كثر بدون علم وعمل يصبح بلا قيمة فى يد إنسان يحى داخل جسد بلا روح وأختتم حديثه قبل أن يفارقنى ويهبط حيث محطة وصوله بأننى فى مرحلة الشباب مرحلة العمل ومحاربة الأهــواء من أجل مستقبل أكثر أشراقًا.
فارقنى الفلاح العجوز تاركا صدى كلماته يتردد فى أذنى  حتى فجر اليوم التالى فروايته سلبتنى  النوم فأخذت أتصفح مذكراتى فى حماس وكأننى فى حرب بقاء وأثبات الذات فلا بديل عن المركز الأول هذا العام على عكس درجاتى الهزيلة فى الأعوام السابقة والتى لا تتناسب ومراسم مغادرتى القرية ولا حجم أوزة أبى، ومع ساعات الصباح الأولى توجهت إلى الجامعة فى حماس شديد وإصرار وخطوات ثابتة كخطوات أحمد ذكى فى النمر الأسود وأنا أردد أغنيته الشهيرة هتقدم وصورة أحمد زويل تدور فى فلك رأسى وأصرت على إلا أستخدم وسيلة مواصلات فجرعة العزيمة التى حقنها الفلاح العجوز بداخلى تكفى لأن أعـــود من قريتى فى المرة القادمة بدون قطــار، ومع بداية المحاضرة الأولى ودخول الدكتور بدأت صورته تهتز و تتلاشى، برغم جلوسى على مسافة قريبة منه مفارقاً مقعدى القديم فى زيل القاعة  حتى توارت خلف ستار النعاس الذى ابتلعنى لأستيقظ داخل مكتب عميد الكلية مغمغماً بكلمات الفلاح ـ النوم الحرام ـ فأساء الحضور الظن بى  كما أُسيء الظن بعنوان قصتى بعدها غادرت مكتب العميد وفى يدى قرار بفصلى لمدة خمسة عشر يوماً، فلعنت الفلاح الذى أفسد حياتى، وعدت إلى حجرتى تمهيداً للعودة إلى قريتى حاملاً مخبوزات أمى وأوزة أبى لأقضى عطلة الخمسة عشر يوماً فى نوم حلال عميق.