الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

قراءة فى كتاب «دستيوفسكى فى المنفى.. ومحن أخرى»

قراءة فى كتاب «دستيوفسكى فى المنفى.. ومحن أخرى»
قراءة فى كتاب «دستيوفسكى فى المنفى.. ومحن أخرى»




كتب - خالد بيومى


رغم مرور عقود طويلة على وفاته إلا أن الجدل لا يزال مستمرا حول أعظم روائى روسى وهو فيودور دستيوفسكى (1821 - 1881)، ففى كتابه بعنوان (دستيوفسكى فى المنفى.. ومحن أخرى) الذى صدرت طبعته الأولى عن دار الهلال يقدم لنا المفكر والأكاديمى د.رمسيس عوض جوانب أخرى من حياة دستيوفسكى وهى فترة محنة النفى إلى سيبيريا التى امتدت لعشر سنوات خلال الفترة من (1849 - 1859)، وهذه الفترة بدأت بإلقاء الشرطة الروسية القبض عليه كمتآمر ضد النظام القيصرى عقب انضمامه إلى جماعة تعتنق الأفكار الاشتراكية عرفت باسم جماعة بيتراشفسكى بتهمة إثارة غضب جميع طبقات المجتمع ضد نظام الحكم وتزويد الفلاحين بالسلاح للتخلص من أصحاب الأرض وتحريض الموظفين ضد رؤسائهم، وكان قد تأثر بالأدب الاشتراكى والتقدمى فى فرنسا الداعى إلى إقامة يوتوبيا اشتراكية ورموز هذا التيار أمثال فيكتور هوجو وجورج صاند وأيوجين سو، وغيرهم، وهو مذهب اكتسح روسيا قادماً من فرنسا رغم الرقابة الصارمة التى فرضها النظام القيصرى على المطبوعات الواردة من الخارج، وتعد روايتى الكاتب الروسى نيكولاى جوجول «المعطف» و«الأرواح الميتة» التى اعتبرهما الناقد الروسى الكبير بلنسكى نموذجين روائيين بديعين يدلان على الاتجاه الاشتراكى للأدب، الأمر الذى جعل دستيوفسكى كروائى شاب يتأثر بالجو الثقافى العام الذى استبدل الاتجاه الرومانسى بالواقعية الاجتماعية التى بدأت فى الظهور فى بواكير عقد الأربعينيات من القرن التاسع عشر.
وكان القيصر نيقولا قد أمر بإنشاء محكمة عسكرية مدنية، وأصدرت هذه المحكمة يوم 16 نوفمبر 1849 حكما بإعدام المتهمين وبينهم دستيوفسكى رمياً بالرصاص، وأحال القيصر نيقولا القضية إلى المحكمة العسكرية العليا للتأكد من إنزال العقاب بهم، وبعد أن أكدت المحكمة العسكرية العليا هيبة القانون طلبت من القيصر أن يشمل المحكوم عليهم برحمته لعدة أسباب منها أن البعض منهم ندم على فعلته والبعض أدلى طواعية باعترافه بالإضافة إلى صغر سن المسجونين وفشلهم فى تنفيذ مخططهم الإجرامى، وبالفعل وافق القيصر على طلب الرأفة، وفى البداية صدر حكم بسجن دستيوفسكى لمدة ثمانية أعوام مع الأشغال الشاقة. ولكن هذا الحكم خفف إلى أربعة أعوام يصدر بعدها أمر بالتحاقه بخدمة الجيش الروسى لفترة غير محددة. واعتبر دستوفسكى شرط التحاقه بالخدمة العسكرية بمثابة منة أو منحة شخصية قدمها القيصر إليه. وتم ترحيله إلى منفاه فى سيبيريا حيث أمضى أربع سنوات كاملة داخل سجن عسكرى لم يبرح الزنزانة إلا للعمل.
ومما خفف عنه فى محبسه لقاؤه بزوجات الثوار الديسمبريين فى «توبولسك» ففى السنوات الأخيرة من حكم نيقولا الأول الذى أصدر قراراً عام 1825 بنفى مائة وعشرين عضواً فى جماعة الديسمبريين المنحدرين من أرقى العائلات الروسية والذين لم تسمح لهم السلطات بالإقامة فى القطاع الأوربى من روسيا الأمر الذى اضطرهم للبقاء فى سيبريا ليكونوا جزءاً من الطبقة العليا الصغيرة العدد التى تحظى بالرقى والعلم وهى الطبقة التى تشغل أعلى مناصب الجيش والإدارة.
ويربط الدكتور رمسيس عوض إصابة دستيوفسكى بمرض الصرع وما تعرض له فى حياته من توتر عصبى شديد ناجم عن بروفة رميه بالرصاص بعد أن أصدر القيصر قراراً باستكمال جميع مراسم وإجراءات تنفيذ الإعدام، الأمر الذى جعل دستيوفسكى يعتقد اعتقاداً راسخاً أنه هالك لا محالة ليفاجأ فى اللحظات الأخيرة بأن القيصر قام بتخفيف الحكم الصادر ضده، وظروف سجنه الكئيب ورعبه المستمر وتهديده المستمر بالجلد وهذه الأمور مجتمعة أدت إلى تدهور أحواله العصبية والصحية.
وفى السجن قابل دستيوفسكى عدداً غفيراً من الشخصيات التى اتسمت بالمشاعر الإنسانية وغير الإنسانية فى آن واحد. حيث اختلطت القداسة والسمو والخسة والندالة  فاستمع إلى حكايات مروعة  من أفواه زملائه السجناء وقد استطاع تحويل هذه الجرائم إلى إبداعات مأساوية تركت أثرها العميق فى إطلاق خياله الخاص بمفهومه للتجربة الإنسانية وسبر أغوار حياة السجون كما نرى فى رواية (بيت الموتى).
ومع نهاية فترة سجنه تغير موقف دستيوفسكى تغيراً شاملاً من غالبية زملائه من السجناء، حيث أنه تخلى تماما عن سابق ازدرائه لهم، وبدأ يوفيهم حقهم من الازدراء والتبجيل. ورغم أنه لم يتمكن قط من التخلص من إحساسه بالعزلة عن طبقة الفقراء بسبب انتمائه الى الطبقة الراقية، فإنه استطاع التوحد مع الطبقات الفقيرة على المستويين الأخلاقى والعاطفى.
وأطلق سراح دستيوفسكى من السجن فى فبراير عام 1854وفى لحظة الإفراج عنه انتابته مشاعر متضاربة وجارفة، فهو يأسى على حياته الماضية ويتطلع إلى مستقبل باهر غير محدد المعالم، وحدث تغيير فى أفكاره وتحقق لديه درجة أعظم من الوعى بالذات وبدأ التواصل مرة أخرى مع الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية الروسية فى منتصف عقد الخمسينيات وأوائل عقد الستينيات من القرن التاسع عشر
واهتدى ديستوفسكى إلى نبذ الأفكار الغربية مفضلاً عليها الأفكار الروسية وأصدر نشرة عام 1847 مجّد فيها السلافية والماضى الروسى البليد فضلاً عن تعبيره عن شدة احتقاره لأوربا والأوروبيين الذين يعتقدون فى استمرار روسيا فى تخلفها لأنها تصر على انتهاج أسلوبها العتيق فى الحياة ولا ترغب فى الاقتداء بالأسلوب الغربى. ويمكن القول إن دستيوفسكى عاش دائماً فى حالة توتر بسبب تأرجحه بين حبه العظيم للنمط الروسى فى الحياة وكراهيته لنظام عبودية الفلاحين،وهذا العصر يتميز بإعادة اكتشاف الروس لبلادهم وجوهر كتاباته لم تكف عن تصوير الصراع بين الفكر الغربى والقلب الروسي.
ومنذ أن تسلم عمله كضابط فى شهر مارس 1857 حتى توقف عن مواصلة كتابة خطاب حول الفن مركزاً جهوده فى تأليف القصص والروايات التى كرس لها كل وقته منذ إطلاق سراحه من السجن وبدأ بروايته (مذكرات من العالم السفلي)، ثم خطر له تأليف سلسلة من الروايات تقع فى خمسة مجلدات بعنوان (حياة خاطئ عظيم) وبطبيعة الحال كانت (الأخوة كارامازوف) تشكل أول مجلد فى هذا المسلسل الروائي. وهو يساوى بين الفكرة والشخصية وجسد كل الاتجاهات الاجتماعية والثقافية فى فترة المخاض التى يمر بها المجتمع الروسى والسابق مباشرة على تحرير الفلاحين الروس من عبودية الأرض، وكذلك فترة خروج البلاد من الركود الطويل فى عهد القيصر نيقولا الأول. ونجحت كتابات دستيوفسكى الباكرة حينما كان  منفياً فى سيبريا نجاحاً عظيماً جذب الانتباه إليه، ويتمثل هذا بجلاء فى قصة (بيت الموتى). ولكن الدوائر الثقافية استقبلت عمليه اللاحقين (حلم العم)، و (قرية ستبانشيكوفو) بالتجاهل التام، فضلاً أن دستيوفسكى أضفى طابعاً هزلياً على إنتاجه الروائى فى هذه المرحلة الباكرة الأمر الذى جعل الكثيرون يعيدون تقييم موهبته الأدبية. حتى أن الأديب الروسى ألكسى بيلتشيف الذى أظهر شيئاً من التحمس لقصة (حلم العم) بسبب امتلاء القصة بالعناصر الفكاهية بطريقة مفرطة، كما عاب على قصة (حلم العم) امتلاؤها بالهزل أكثر مما ينبغي، فضلاً عن أنه ذهب إلى أن قصة (قرية ستبانشيكوفو) تفتقر فى عمومها إلى الشخصيات النابضة بالحياة وبنشر هذه الأعمال  يمكن القول إن دستوفيسكى عاد أخيراً إلى أرض الوطن بعد غربة دامت نحو عشر سنوات، وفجرت هذه العودة أبدع ما يملك من طاقات خلاقة وأعمال جليلة سطرت لصاحبها الخلود فى عالم الأدب.