الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«الإنسانية» فى الترجمات الشعرية لشهاب غانم

«الإنسانية» فى الترجمات الشعرية لشهاب غانم
«الإنسانية» فى الترجمات الشعرية لشهاب غانم




كتب – خالد بيومى

اجتماع الفن مع جمال الإنسانية هو القمة العالية التى يصبح فيها الجمال نوعاً من الكمال، وفى هذه القمة يشعر الإنسان بالطرب والنشوة، ويحس أن هذا الكمال المزدوج فى الفن والإنسانية هو أكرم نعمة من الله على مخلوقاته فى هذه الدنيا المليئة بالصعوبات والآلام. ود.شهاب غانم خير تجسيد لهذا المثال فهو شاعر وأكاديمى ومترجم وإدارى ومثقف واقتصادى إمارتى.
وسوف أركز فى هذه الشهادة عن الترجمة الشعرية عند شهاب غانم. كل قراءة ترجمة وكل ترجمة قراءة جديدة تحاول تفسير ما هو مترجم بغية التوصل إلى فهمه، والقراء والمترجمون ليسوا متساويين فى القدرة على التأويل والفهم والاستيعاب، حتى وإن كانت النصوص مكتوبة بلغاتهم الأصلية. والمترجم المبدع - وليس الأشبه بالآلة - لا يقوم بتحويل النص الذى يترجمه كلمة بكلمة، ولا بنقل التراكيب كماهى فى لغاتها، وإنما يقيم بناء لغويا آخر بكلمات أخرى وصيغ أخرى وتراكيب أخرى، يفرضها كلها اختلاف طبيعة اللغتين. ويرفده فى ذلك مخزونه اللغوى وقدرته على التصرف. ولماكانت الترجمة فعل تواصل وعملية فهم وإفهام، فإن تصرف المترجم لن يكون إطارا لغويا فحسب، بل إنه دائما ما يكون إطارا فنيا لأداء اللغة، كما أن المترجم المبدع لا يرضى بالقيام بدور الخادم لمؤلف العمل الأصلي، فهو يعى دائما أنه يقوم بعمل إبداعى فى لغته الجديدة، وإن كان بوحى من عمل آخر.
رحلة شهاب غانم مع الشعراء العالميين هى رحلة حرة، بمعنى أنها نوع من الحياة معهم فى بعض لحظاتهم الإنسانية وبعض أشعارهم، دون التقيد بمنهج أكاديمى صارم يبدأ معهم من الميلاد حتى النهاية، ويحرص على تسجيل الأحداث التاريخية والأدبية تسجيلاً دقيقاَ يمضى فيه معهم لحظة بلحظة، فهذا أمر لم يفكر فيه، ولم يخطط له، ولكن رحلته مع هؤلاء الشعراء العالميين الكبار هى نوع من الحياة فى حدائقهم الجميلة، يتنقل فيها بحرية كاملة هنا وهناك، كلما أثار انتباهه زهرة جميلة، أو شجرة ظليلة، أو مقعد إنسانى مريح، ولكن الشىء الوحيد الذى يحكمها هو نداء القلب وجاذبية الجمال فى الفن والإنسان.
وشهاب غانم لديه اهتمام بالثقافة الهندية حيث يعتبره النقاد الهنود سفيراً للثقافة الهندية فى العالم العربى وهو صاحب أول مجموعة شعرية لشاعر عربى ترجمت ونشرت بلغة المليالم المنتشرة جنوب الهند، وقلما نجد مجلة أو جريدة هندية لم تنشر حوارات معه أو مقالات عنه وتوجت جهوده بحصوله مؤخراً على جائزة طاغور وهو أول شاعر عربى ينال هذه الجائزة القيمة. ومن أبرز الترجمات التى قدمها المجموعة الشعرية (كيف انتحر مايكوفسكى وخمسون قصيدة أخرى) للشاعر والناقد والمترجم الهندى «ك.ستشدانندن» ونقدم هنا قراءة نقدية لهذه المجموعة.
يشير غانم إلى سبب إقباله على هذه الترجمة فى مقدمة الكتاب فيقول: «لاقتناعه بأنه من أهم شعراء الهند المعاصرين، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، فهو شاعر عالمى يجمع بين فنية القصيدة العالية ومحتواها الإنسانى فى أغلب الأحيان».
وعندما نتصفح قصائد المجموعة نكتشف ولع «ك.ستشدانند» بالصورة الشعرية التى هى فى حد ذاتها ليست ابتكاراً حديثا، ولا هى ابنة عصرنا، ولكنها عنصر أساسى فى كل شعر عظيم من عهد «هومر» حتى يومنا هذا.لقد توصل الشعراء القدامى إلى ابتداع الصور، ولقد كان إرهاف الحس المركوز فيهم يهديهم إلى ما يهدينا العلم إليه اليوم. والنقد الحديث حين يدرس الصورة الشعرية لا يدعى لنفسه سبقاً ولا فتحاً، فهو يعلم حق العلم أن الصورة موجودة من قبله وستظل من بعده، ولكنه إذ يعلم هذا إنما يؤكد فى الوقت ذاته أهمية عنصر الفكر فى الشعر وحاجة الفنان الحديث إلى الوعى بكل ما هو مقدم عليه.
وهذا نموذج من قصيدة «كيف انتحر مايكوفسكي» التى تحمل اسم المجموعة:
التواضع والشعر ينبغى أن لا يعاقبا بهذا الشكل
قذف بالبوق الذى كان يدوى كجبال القوقاز
فى الدانوب لتلعب به أمواجه
ونفش الغبار عن القيثارة الروسية
التى تحمل البصمات الدامية لأصابع بوشكين ويسنين
وأعطاهم مرثاة
عن تحلل الحب
ثم مشى فى صمت
إلى حجرة الكتابة
حيث اعتاد تناول الشاى مع الشمس
والغناء بأعلى صوته
أغلق الستائر على السهول
التى كان الظلام قد بدأ يزحف عليها
ورفع المسدس
الذيكان يحتفظ به لأعدائه
إلى رأسه: كأنه هو العدو الآن.
إن هذه الأبيات غنية بالصورة الشعرية، فهى لا تكاد تقرر شيئا تقريراً مباشراً، وإنما تحيل كل الجزئيات الفنية المألوفة إلى رموز فنية تستمد مغزاها من تراكمها فى السياق. والأمر الجدير بالملاحظ أن هذه اللوحة التى تمتزج فيها الأضواء بالظلال، لا تقدم صورة بصرية فحسب - وإن كانت تلك خاصتها أساساً - وإنما هى تشبع كل حواس القاريء أو السامع، لأنها تتوسل إلى مسالك الحس والإدراك جميعا. والأثر الكلى الذى تخلقه مثل هذه الأبيات فى وجدان المتلقى يبقى طويلاً، بألوانه وأصواته وطعومه وروائحه ؛ لأن كل تفاصيله دقيقة منضبطة محددة.
وترجمة الشعر التى تحاول إعادة إبداع عمل سبق إبداعه كما يرى د.عبد الغفار مكاوى هى أشبه بالمخاطرة فى أرض حرام، فى منطقة تقع على الحدود الغامضة، كذلك، بين الإنشاء أو الإبداع الخالص، وبين النقل الحرفى الدقيق والأمين.
لصدى الذى يبقى من الشعر فى النفس، الإصغاء إلى الدبيب، دبيب الإيقاع وترجمته إلى لغته الخاصة مع الإبقاء على النسغ الحى للعمل المترجم. فنقرأ فى قصيدة (الدهليز):
إنى امشى فى هذا الدهليز
منذ وقت طويل
دون أن أصل إلى غرفتى أبداً
هذا الدهليز هوخط الاستواء
الذى يدور المرء حوله إلى ما لا نهاية
وهو الصحراء الكبرى الحارقة
التى لا يستطيع المرء أن يعبرها سيراً على الأقدام
وهو القطب الشمالى المتجمد الذى يستعصى على السباحة.
فالقصيدة تعبر عن المتاهة الكونية التى يعانيها الشاعر، والشعور بالوحدة والاغتراب فى هذا العالم.فهذا الشعور يهاجمه وهو يعيش مع الناس، ولكنه لا يجد بينهم إلا من هو مشغول عنه، فلا يستطيع أن يتحدث مع أحد عن همومه وشكواه.
وفى قصيدته المهداة إلى محمود درويش تحت عنوان (إننا نغنى من بين الخرائب) يقول:
إننا نغنى من بين الخرائب
أنشودة الحياة
إننا نغنى من الصحراء
أنشودة المطر
لقد بسطنا أيدينا من أجل الخبز
فأعطونا الرصاص
ورفعنا رؤوسنا للأزهار
فأعطونا سكاكين
وبسطنا أيدينا لأجل الأرض
فقذفوا بنا فى الدماء.
حيث يندد الشاعر بجرائم الاحتلال الصهيونى الغاشم فى حق الفلسطينيين. ويبدو أن «ستشدانندان» قد كتب هذه القصيدة تحت تاثير التوتر العالى الذى يعنى ارتفاع شحنات الحساسية إلى مستوى يقارب الانفجار.
كما يؤكد على حقيقة كبرى مفادها أن الشعر « قوة « قد تفوق أحيانا قوة الدبابات والمسدسات والبنادق.
وفى ترجمات شهاب غانم نلاحظ أن النص المترجم يهاجر من وطنه، الذى هو لغته الأصلية، إلى وطن آخر هو اللغة التى نُقل إليها. هذه الهجرة تغيره، وتجعله يتخذ فى وطنه الجديد هوية أخرى تشير من جهة إلى أصله، وتدل من جهة ثانية على مآلة «صيرورته». موضوعيا يصبح هذا النص مترجما نفسه وغيره فى آن.يصبح اثنين فى واحد.فنقرأ فى قصيدة (غاندى والشعر):
ذات يوم وصلت قصيدة نحيفة
إلى غاندى فى معتزله
لتلقى نظرة خاطفة على الرجل
غاندى الذى كان يغزل خيطه
فى اتجاه إلهه
لم يعر أى التفات للقصيدة الواقفة ببابه
تنحنحت القصيدة
فنظر غاندى إليها شزراً
من خلال نظارته، تلك التى شهدت الأهوال.
سألها: «هل غزلت خيطاً يوما ما؟»
هل جررت عربة قمامة يوما ما؟
هل وقفت فى أدخنة مطبخ فى صباح باكر؟
هل تضورت جوعا فى يوم من الأيام؟
نكتشف فلسفة غاندى فى الحياة، وكأنه يريد أن يقول بأنه شاعر الفقراء، وبأنه يحمل راية مكتوباَ عليها : المجد كل المجد للأكواخ وبيوت الصفيح، ولكل إنسان يعمل ويتصبب العرق من جبينه.
والقصيدة الخاصة تمثل لوناً خاصا من الكتابة الأدبية وهو أسلوب «السرد الدرامي» وهذا يتطلب براعة خاصة من المترجم الذى قدم ترجمة خلّاقة تستوحى الجو الشعرى والشعورى للقصيدة من أجل خلق عمل جديد بشعرية جديدة مختلفة عنه فى معظم الأحيان.بمعنى أن القصيدة فى الأساس أسلوب قصصي، لكن غانم أدرجها فى صلب الحدث الدرامى بحيث يتخذ موقفاً وسطا بين السرد والحوار.
كما تبرز عند الشاعر نزعة الإخاء الإنسانى وضرورة إزالة الحدود والمتاريس التى تفصل بين البشر على اختلاف ألوانهم وجنسياتهم فيقول فى قصيدة: (عن سور الصين العظيم):
لا أؤمن بالجدران
أؤمن بالماء
بالماء، بالجذور، بالحب،
لأن هؤلاء يعملون ضد الجدران.
كل الجدران مؤسسة على الدماء،
دماء الرجال، والحيوانات، والنباتات.
وهذه النزعة لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق الرحمة والحنان والمحاولة الصادقة للتعاطف بين الناس.
وقد يكون ما يصوره «ستشدانندن» خيالياً وصعب التحقيق فى الواقع، ومع ذلك فهو يحرك مشاعرنا ويملأ نفوسنا بإحساس دافيء ومشاعر جميلة.
والشاعر ذو أسلوب ناضج وصياغة لغوية محكمة. يستخدم الجمل الطويلة حين يضمن متابعة القاريء واستغراقه، ثم ينزع إلى تقصير العبارة، لجذب الانتباه والتشويق.
فيقول فى قصيدة (الصبار):
الأشواك لغتى
أعلن عن وجودى
بلمسة دامية
ذات يوم كانت هذه الأشواك أزهارى
إننى أمقت العشاق الذين يغدرون
لقد تخلى الشعراء عن الصحاري
ليعودوا إلى الحدائق.
فالشاعر يريد أن يقول إن قصائده بمثابة مشرط الجراح وأحلام الشعراء الكبار ليست عبثا وعلينا أن نواجه متاعب الحياة ونحن أقوياء وقادرون على الاحتمال.
وفى الختام نقول : لقد طوف بنا شهاب غانم فى حدائق هذا الشاعر العظيم من خلال رحلة حرة، حرص كل الحرص على دقة المعلومات، ولكنه لا يتوقف كثيراً إلا عند التجارب الإنسانية والروحية والفنية العالية. فقد أنصت المترجم إلى قلبه أكثر مما أنصت إلى المناهج الأدبية الدقيقة.