الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الأزرق التحفة

الأزرق التحفة
الأزرق التحفة




كتبها - أحمد محمد جلبى

اللوحات بريشة الفنان على حسان

يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 055 كلمة» على الإيميل التالى:    
[email protected]

وقفت تتأمله  مذهولة، وقعت فى غرامه من اللحظة الأولى، قلبته فى يديها وتحسست ملمس جلده الناعم.. هتفت: بابا.. فين الفردة التانية.. هزته وهو منشغل عنها تمامًا؛ أين باقى الحذاء؟ أجابها دون أن يفتح فمه الممتلئ بالمسامير: على القالب، نظرت إلى القوالب المتراصة وانتظرت حتى أفرغ ما فى جعبته من المسامير، صاحت أريد أن أراه، لم تنتظر أن يجب صاحت مرة أخرى فى شك واضح: أهو كهذه الفردة تمامًا؟: أنت عارفه أبوكي.. دا أنا أستاذ، كان مقسوم نصفين.. دايس عليه قطر إنما إيه صلحته متفرقهوش عن الجديد أبدًا..!! عايزه أشوفه: لما أظبطه تمام ممكن تشوفى قبل ماصاحب ياخده: بس ده حريمى؟: وإيه يعنى اللى جاب راجل: طب متسلموش إلا لما أشوفه: فوتى بكرة بعد المدرسة حتلقيه..: بص أنا حخلى الفردة السليمة معايا لحد بكرة: يا بت قلت خلاص حتشوفيه كامل أشاحت بوجهها -: لا أنت متضمنش. حملت حقيبتها المدرسية وهرولت إلى البيت، انفردت تقلبه بين يديها،  فردة عجيبة حقا،  صغيرة البوز..: ذات التواء حلزونى.. لونها أزرق متدرج متداخل من درجات اللون،  وهو بين يديها، حاولت أن تعرف كيف تم تفصيله، الفردة غريبة التكوين، كان الحذاء بكعب دقيق زجاجى الشكل يشبه منقار الطائر، الكعب العالى شكل لها لغزًا فى هوية من تنتعله، تصورت وظيفتها موديل، مضيفة طيران، ممثلة أو هانم كلاس، كانت تعرف كيف تصلح حذاء.. كيف تخيط قطعة أو تضيف إكسسوارًا، تعرف بعض الأشياء.. أبوها علمها كيف تساعده، كيف تدير المكان فى غيبته لأمر طارئ أو مشوار شراء بضاعته من البلد..، هذه الفردة تتخطى معلوماتها،  لابد أن اشترى مثلها اسمعتنى؟ قالت لوالدها ذلك حين جاء، انتظرت فراغ اليوم الدراسي، واصلت العدو حتى باب الدكان، رأتها لامعة زاهية أمامها، حقًا لم تفرقها عن الأحذية الجديدة، اختارت لها علبة كرتون ووضعتها فيها بكل عناية، انتظرت حتى آخر النهار، حين يأتى صاحب الحذاء ليأخذه فتسأله من أين ولكنه لم يظهر. استولت على كامل إيراد المحل لتشترى فى اليوم التالى حذاءً مشابها،  حاولت قراءة اسم المحل من على المستصلح إلا أنها لم تجد غير علامات المقاس، نبهها والدها إلى أنه ربما يكون مستوردًا؛ عليها الذهاب لمحال معينة فى شارع شريف أو سور نادى الزمالك.
انصرفت لتواصل فى اليوم التالى ولعدة أيام تالية خطة سير روتينية بين المدرسة ومحال الأحذية فى المناطق المختلفة للبحث عن حذاء أزرق تحفة، هو نفسه أو قريب منه ولم تجد أبدًا.. أبدًا، لم تجد موديل يقرب الشبه ولو بنسبة أربعين فى المية، صاحب الحذاء لم يحضر لتسأله من أين أتى به، فجأة خطر لها خاطر: بابا أعملى واحد زيه-: زيه بالضبط شغلانه يا جيجي..، قالت بتحد: إيه مش حتعرف؟؟ -: لا لكن أنا مش صنايعى جزم حريمي..، بإصرار -: حساعدك..،  -: أه أهو ده اللى خايف منه..!! -: عشان خاطرى وبعدين وفرتلك ثمنها.. والفردة أهى قدامك..، قال غير مقتنع: يا سلام والجلد يا عبيطة واللون والوقت اللى أنا شغال فيه فى حاجات الناس.. انسى. لما ييجى الراجل نعرف مكانها منين ونروح نجيب زيها..؟قالت: لا أنا قلت تعملها.. أو أعملها أنا وتساعدني..هه، -: يا عنيدة.. الحكاية مش بسيطة.
مرت أيام كثيرة.. قبل أن تنتهى من صنع حذاء مثل الأول؛ عرفت وقفة المكنة والتخطيط الدقيق لقطعة الجلد، جولة طويلة بين محال الإكسسوار لتنتقى سوستة أو أبزيما أو حلية نفس الشكل مشاوير لصباغة قطعة جلد باللون الأزرق المتدرج المتداخل، أكثر من عشر تجارب اللون، أنفها ظلت عالقة به رائحة مثبت الصبغة، أصبح شغلها الشاغل الحذاء كيف تقترب من صناعته وتفصيله..؟؟ تحادث صديقاتها تلاميذ الإعدادية عن مشاكل تصنيع الأحذية والورش التى تعمل فى هذه الصناعة..، سمعتها مدرسة الفصل وهى تتحدث حديث الخبير المتمكن!! سألتها كيف تدارى عيبًا فى شنطة أشترتها حديثًا ولم تخرج بها إلا مرة واحدة، فى النهاية أصبح الحذاء التقليد أمام عينيها يقف كتفًا بكتف أمام الحذاء الأصلي، رائعًا حقًا، ظلت أيام هى وأبوها يقفان أمامه، مثل الرسام أمام إحدى لوحاته الفنية.. يفتش إن كان ينقصها شيء.. فى النهاية قالت لأبيها.. تعرف ناقصة إيه.. هز رأسه نافيًا أن يكون على علم قالت: إنه ليس فيه جديد.. زى الأول بالضبط.. خبطها بخفة يده على ظهرها.
بعد أشهر.. جاءت سيدة تسأل عن الأزرق التحفة.. كما كانا يسميانه قالت إنه من أشهر أرسلت أخاها به. احتارت وهى ترى الأصلى إلى جانب التقليد من منهما يخصها. حتى تطوعت جيجى بإحضار الحذاء المستصلح لها وانصرفت وهى تبدى تعجبها من أن يكون لحذاء سندريلا الذى أحضرته من أوروبا شبيه مصري.
قال لها أبوها يعنى كلفتينى وشغلتينى أيام طوال وملبستيش الجزمة الجديدة ولا خروجة واحدة.. إيه وحشة دلوقتي، تصنعت جيجى الاستعلاء ثم قالت: لا بس دلوقتى ذوقى بقى أعلى ثم ضحكت وضحك وهو يقول لها: يا رب أشوفك صاحبة ورشة تصنيع جزم وبراطيش.. يا بنت الصرماطى.