الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«الأم شجاعة» واتباع المذهب الأول على مسرح ميامى

«الأم شجاعة» واتباع المذهب الأول على مسرح ميامى
«الأم شجاعة» واتباع المذهب الأول على مسرح ميامى




 انتفض عدد كبير من المسرحيين خلال انعقاد الدورة التاسعة للمهرجان القومى اعتراضا على فكرة الاعتماد على تقديم نصوص من المسرح العالمى، وعدم الاكتراث لوجود مؤلفين مصريين، وكان من أشد الملاحظات وضوحا خلال المهرجان هى تجاوز المسرحيات المقدمة للزمن وإعادة تقديمها بلا إضافة أو رؤية جديدة تحاكى الواقع، واليوم يشهد المسرح المصرى إعادة لتقديم عرض «الأم شجاعة» لبرتولد بريخت إعداد وإخراج محمد عمر على خشبة مسرح ميامى، لكن السؤال هل يواجه العرض نفس أزمة التكرار، وهل تجاوزت المسرحية الزمن، بمعنى آخر هل تجاوزنا القضية التى تتناولها؟!
 المفاجأة أن المسرحية التى كتبت عام 1939، لم تتجاوز الزمن، بل على العكس تقدم فى زمانها ومكانها وكأنها كتبت اليوم على أنقاض أرض عربية خالصة، تناول بريخت فى مسرحيته «الأم شجاعة» أو «الأم شجاعة وأبنائها» قصة لأم من أهم سماتها الجشع، ويبدو أنه أطلق عليها شجاعة سخرية من استقبالها لكل شيء بترحاب شديد، وبصدر مفتوح رحب، طالما لن يضر بمصلحتها الشخصية حتى ولو كان هذا الشىء هو موت أبنائها جميعا، تعمل هذه السيدة سمسارة فى زمن الحروب، وتفضل موت أبنائها مقابل الاحتفاظ بتجارتها، لأن الحرب هى التى تجلب لها الحياة، فهى تبيع الجنود الملابس والسلاح والطعام، ولن تتنازل عن أموالها حتى فى مقابل الاحتفاظ بأبنائها، وهكذا تظل تابعة لكل ملة وأى دين طالما فى هذا الاتباع مصلحة لها، فترفع علم من يسود وتؤيده.
 كتب بريخت هذه المسرحية لمقاومة الحكم النازى وقدمت للمرة الأولى بعد نشوب الحرب العالمية الثانية، وكان قد كتبها فى السويد بعد هروبه من ألمانيا النازية مع غيره من المثقفين الألمان عندما بدأ هتلر فى حرق الكتب بالميادين، وتدور أحداثها الأصلية فى أيام حرب الثلاثين عامًا التى دارت فى أوروبا الشرقية وألمانيا، لذلك عندما تذهب إلى مسرح ميامى لمشاهدة العمل، الذى قام المخرج محمد عمر بتحويله إلى العامية المصرية، لن تشعر بالغربة، ولن تنتفض غاضبا كما سبق أن انتفض المسرحيون ، بل على العكس ستشعر بمزيج من الدهشة والحزن، ستدهش من عبقرية وقدرة بريخت بأن يظل عمله حيا يرزق بيننا، وكأنه كتب بالأمس من شدة توافقه مع الواقع بحذافيره، وكأن الدنيا لم تتجاوز دمار وخراب الحروب منذ كتابة هذا النص المسرحى عام 1939، وحتى يومنا هذا، وستشعر بنفس الحزن والاسى على تكرار سيناريوهات التاريخ، وكأنه يعاد أمام عينيك مع تغيير بعض التفاصيل، وبالتالى ترسخ المسرحية لمقولة الفيلسوف الألمانى هيجل «نتعلم من التاريخ ألا أحد يتعلم من التاريخ»..!
    قام المخرج بتمصير العرض كما سبق وأشرنا، واعتدنا طوال الفترة الماضية مواجهة أزمة تمصير الأعمال العالمية بسبب لجوء المخرجين الشباب إلى استخدام تعبيرات ركيكة تفقد العمل هيبته وقيمته وكذلك متعته ، لكن هنا طغت خبرة المخرج الطويلة، واتضح الفارق بين إعداد الهواة وإعداد المحترفين، فلم يفقد العمل روعته بالعامية المصرية بل على العكس ازداد متعة واقترابا من الجمهور، وغلب على الحوار أسلوب السجع فى الكلام، فكان أشبه بحوارات حكايات ألف ليلة وليلة، وقام أيضا بتحويل الصراع الدينى الأصلى بالمسرحية بين البروتستانت والكاثوليك، إلى حرب وصراع على ضرورة اتباع «المذهب الأول»، دون أن يسمى هذا المذهب أو يشير إلى نوعه، وبالتالى فتح المجال لاتساع دائرة الإسقاط ليس على دين بعينه ولكن على كل مذهب استخدم الحرب راعيا له سواء كان مذهبا دينيا أو سياسيا، وبذلك جرد الأحداث من تحديد المذهب والزمان والمكان، حتى يترك الأمر مفتوحا لخيال المشاهد، وهو نوع محمود فى الترميز خاصة فى تناول القضايا الشائكة، فبرغم ما يحمله العرض من رسائل واسقاطات مباشرة على الوضع السياسى بمنطقة الشرق الأوسط وظهور تيارات تكفيرية مثل داعش وغيرها إلا أنه حمل الكثير من الرموز والإسقاطات السياسية والدينية والإنسانية، حيث شمل العرض أكثر من خط درامى وحكايات منفصلة بجانب حكايته الرئيسية، مثل قصة حب الفتاة التى دمرت حياتها وجعلتها تسلك طريق العاهرات، وحب الرجل «المذهبجى» للأم شجاعة، وهو الرجل الداعى لاتباع المذهب الأول، وقصة الابنة الخرساء التى حملت بين ضلوعها عذاب فراقها عن أخواتها الأول بعد تجنيده بالحرب والثانى بعد الحكم عليه بالإعدام، وكانت هذه الفتاة الأكثر إنسانية أوهى ممثلة الدعوة للطهر والإنسانية بهذا العمل، ثم قصة الأسرة الفقيرة التى عانت ويلات الحروب، وقصة «الأم شجاعة» مع الطبيب الذى يحاول استغلالها للحصول على أموالها، قدم الممثلون العمل بقيادة بطلته رغدة بمهارة شديدة، ودارت مباراة تمثيلية بينها وبين الفنان علاء قوقة الذى أدى دوره برشاقة وخفة ظل فهو الرجل الأفاق الداعى إلى اتباع المذهب الأول والذى يحشد المزيد من الناس له وللحرب دفاعا عن المذهب وأصحابه، وكلاهما كان شديدا الاتقان والتميز بدروهما على خشبة المسرح، وكذلك كانت صفاء جلال فى دور العاهرة، والممثلون الشباب ندى فقيه، عمرو عثمان، أحمد أبو عميرة، وعمرو مصطفى، والفنانة زينب وهبي.  
  استخدم المخرج تقنية الفيديو بورجيكتور الذى التحم مع ديكور العرض والممثلين، حيث انعكست شاشته على ستارة كبيرة، استعرض عليها مظاهر الدمار والخراب التى تلحق بالحروب وتداخلت الشاشة مع ديكور المسرح الذى صممه مهندس الديكور محمد هاشم، بل كانت الشاشة جزءًا لا يتجزأ من الأحداث بشكل واضح حيث دخل من خلالها الممثلون مستعرضون أدوارهم بالعمل، مثل دخول رغدة «الأم شجاعة» بالعربة الخاصة بها من خلال هذه الشاشة الكبيرة وكأنها تتجول بالبلاد حتى وصلت من الحدود إلى البلد الذى استقر به الحرب، وبالتالى صنع المخرج صورة مسرحية مميزة ومعاصرة وغير تقليدية بالملابس تصميم مها عبد الرحمن وشاشة العرض السينمائى للمخرج طارق الكاشف والديكور، كل هذا ساهم فى صنع سينوغرافيا مميزة ومعبرة عن دراما العرض الشائكة.
 يعتبر «الأم شجاعة» هو ثانى عمل ضخم يقدمه البيت الفنى للمسرح بعد «ليلة من ألف ليلة» للفنان يحيى الفخرانى، والذى طال انتظاره عاما كاملا بسبب تعثر البروفات أكثر من مرة، لكن ربما كان حظه أسوأ فى مسألة الدعاية والتسويق، فللأسف بخلاف أيام عيد الأضحى، لم يشهد العمل إقبالا جماهيريا رغم تميزه الفنى على كل المستويات، ويرجع هذا إلى أكثر من سبب الأول ضعف حملات الدعاية والإعلان عن عروض البيت الفنى للمسرح ، فتتعرض عروض كثيرة للظلم بسبب عدم وضع خطة واضحة للتسويق للأعمال الجيدة، والسبب الثانى هو المسرح نفسه وطريق الوصول إليه، فهناك أزمة فى تصميم مدخله الذى يبدأ بممر طويل ضيق بجوار ملهى ليلي، بجانب ضيق مساحة واجهة المسرح الأمامية والتى تتطلب جهدا حتى يلحظها أو يراها المارة، ومن ثم صغر حجم أفيش العرض مقارنة بأفيشات أفلام السينما المجاورة له، وحتى هذا اليوم لا يزال المسرح غير مألوف للجمهور، ولم يشفع له وقوعه فى منطقة حية بوسط البلد بجوار سينما مترو وميامي، ففى الوقت الذى يقع فيه المسرح بمنطقة تنبض بالحياة تتعرض عروضه لظلم شديد، ليس هذا فحسب قد يصل الأمر أحيانا إلى أن يتصور البعض وقوع المسرح بمدينة الإسكندرية بمجرد ذكر كلمة «ميامي» ..!