السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الترس يأكل المدينة

الترس يأكل المدينة
الترس يأكل المدينة




كتب - أحمد الرومى

فى عصور الظلام، وقعت حادثة غريبة، أخافت أهل المدينة، وروعت أمنهم، إذ يحكى عن رجل كان يمتلك أرضا زراعية شاسعة، تتفجر بالخير الوفير الذى يكفى أهل المدينة الفقراء، ويفيض، كان يعاونه على حرث الأرض وريها ماكينة ضخمة، صُممت ورُكّبت بعناية فائقة، منذ ما يزيد على النصف قرن، لتكون ذات طبيعة متفردة. فى أحد الأيام تعطلت هذه الماكينة العملاقة، حاول صاحبها إصلاحها، اجتهد بدون كَدّ، لكنه فشل فى هذه المهمة، مهمة حياته.
سمع الناس حكاية الماكينة المعطلة، نمى داخلهم الذعر من الجوع الذى سوف يكسو بطونهم إذا توقفت الأرض عن إخراج خيراتها، سعوا سعيا إلى صاحب الآلة، أخبرهم أن الوضع متعسر وأن الماكينة، التى تنادى على خير الأرض فيأتى، تأبى العمل. هلع أهل المدينة، عرضوا عليه أن يقدمون أرواحهم وأبناءهم قربانا من أجل أن تدور ماكينته وتمرح فى الأرض مجددًا، جمع منهم ما جمع، ووعد الناس بالخير الوفير، وأنه سيبذل كل الجهد من أجل إعادة الماكينة لضجيجها المعهود.
اختلى الرجل بماكينته، لقد حركت هتافات أهل المدينة حماسه الباهت، قضى أسبوعين يحايل آلته من أجل أن تعمل، لكن بلا جدوى.
لم يكن الرجل سياسى مَكن، ولم يعرف ما الذى يوجد فى بطن آلته، ولا يفهم كيف تدور، فالماكينة تعمل منذ أن صنّعها جد أبيه، ولم يع ـ قبل ذلك ـ ماذا كانوا يفعلون عندما تتعطل، هذا ما يفسر عجزه عن فعل شىء يجعل الماكينة تبرح مكانها. كبرياء الرجل التليد تحول إلى «عنطزة» فوّاحة، جعلت من المشهد القاتم، أكثر تعقيدًا وارتباكًا.
عرّى الرجل بطن الماكينة، فوجدها مزدحمة بالتروس، ملّس عليها بكفه الأملس، متلبسا روح رجل مبروك، ظن أنها ستدور بالقوة الخافية التى يعتقد أنها كامنة فى داخله الموروثة من أجداده، لكنها لم تدر.
كان الرجل يتوقع أن شيئًا ما، غير اعتيادى، سوف يحدث، يخلصه من هذه الورطة. وكأن القدر أراد أن يراوغه، فأعطى له هذا الحدث الجلل.
«أنا الحل، فقط أريد الإذن لإصلاح العطب».
عبارة نطق بها أحد التروس القوية فى بطن الماكينة، ذهل الرجل، وشحب للحظة، ثم استجمع قواه، وفرح.
لقد وجد أخيرا من يعاونه ويسانده للخلاص من أزمة بوار الأرض. سأله الرجل: «وكيف ستفعلها؟» أجاب الترس: «هناك فى الزاوية ترس ضعيف، مكسور، أبطل عمل الآلة، إذا أزيل ستعمل الماكينة».
فحص الرجل ماكينته من الداخل، فوجد كلام الترس الناطق صحيحا، صارحه الرجل بأنه لا يملك الوقت لاصلاح الترس المعطوب، أو حتى استبداله، فرد الترس: «دعنى ألتهمه، وأحل محله»
فرح الرجل بالسهل الممتنع، منح الترس الناطق صلاحية أكل التروس المعطوبة والقيام بدورها، المهم أن تعمل الماكينة بكفاءة وقوة.
التهم الترس الناطق الترس المكسور، وتمدد فى الماكينة ليحل محله ويـأخذ وظيفته، ودارت الماكينة.
خرج الرجل إلى أهل المدينة مخاطبا، أخبرهم أنه حل الأزمة، وأصلح الماكينة، لم يخبرهم بحكاية الترس الناطق فى البداية، فرح الناس وهللوا إلى صاحب المزرعة المغوار، الذى يقاتل من أجل بقاء بطونهم عارية من كساء الجوع الشرس.
بعد أيام تعطلت الماكينة مجددا، وتسرب الخبر إلى أهل المدينة، عمّ التوتر، هرع الرجل مخاطبا ترسه المنجد، فمنحه قبلة الحياة من جديد.
أكل الترس الناطق، مرة أخرى، الترس التالف، ودارت الماكينة، ثم عادت وتوقفت. خلّص الترس النبه على كل التروس التالفة، واحدا واحدا، إلى أن أصبحت بطن الماكينة شبة خاوى من التروس، استفحل الترس العبقرى الناطق، راح يلتهم أى شىء يتعطل ليملأ فراغه، ويؤدى مهامه، الحلول المؤقته هى النتيجة، لكن التعطل زاد، والورطات أخذت فى التراكم، ولم يعد فى مقدور صاحب الماكينة، ولا الترس النشيط، إيقاف الانهيار، لم يعد أمامهما سوى الانصياع للأزمة، دون أن تكون هناك حلولا جذرية، خالية من السحر والدجل.
التهم الترس الماكينة كلها، بعد أن قضى على كل نظرائه فى العمل، لم يعد هناك ماكينة تحرث الأرض.
علم الناس بالمصيبة، لقد أصبح الترس هو الماكينة، لقد رأوه بحجمه الضخم وجسده الفولاذى الصلب، وأسنانه الحامية القاتلة، يتدحرج على الأرض فى الزراعات، هو يريد أن يقلّب الأرض، نيته طيبة، يريد أن يخدم المدينة وصاحب الآلة، لكن الناس شاهدت بعينها كيف أن أسنانه الحامية كانت تُخرّب الأرض وتفرمها فرما.
هلع أهل المدينة من المنظر، اختفى صاحب الأرض بفعل التضاؤل أمام جلال الحدث، وأصبحت كلماته المطمئنة غير مسموعة أمام ضجيج الترس الطائش العاجز عن إيقافه أو التوقف.
أكل الترس كل شىء، كل ما يتعطل فى طريقه يلتهمه ويحيل محله، كان إيقاع دحرجته على الأرض أسرع من إيقاع الطبيعة العادية، فهو يستشعر الدنيا بمفهوم الماكينة، الذى لا يعرف سوى التعامل الجاف المناهض لمرونة الحياة، أداؤه الصارم لا يعرف المشاعر، فلسفة الماكينة هو العمل من أجله انجاز هدف، حتى لو انبرت أسنان تروسها، ترسًا ترسًا.
أنطلق الترس العملاق مندفعا، فأكل كل ألوان الحياة فى المدينة، الناس بخطاهم المعتادة، الطرقات بطولها الممتدة، حركة الأنهار بانسيابها الناعم، الأحلام بتهاديها وتتمدد فى الأفق، التهم الترس كل شىء، إلى أن أصبح لم يعد غيره فى المدينة.