الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الغربة وسنينها

الغربة وسنينها
الغربة وسنينها




كتب - د. محمد محيى الدين

لست هنا بصدد كتابة موال أو قصيدة عن الغربة والاغتراب عن الوطن بعد أن أصبحت مصر بلدا طاردا لأبنائها وبعد ان اصبح حلم شبابها هو ان يهاجروا منها طلبا لحياة أفضل وتحقيق طموحات يعتقدون حقيقة أو وهما، أنهم غير قادرين على الوصول إليها فى وطنهم، ولست هنا بصدد انتقاد تلك الظاهرة أو تشجيعها ولكن مناقشتها بشكل عقلانى وموضوعى.
وفى البداية أعترف أن الشباب قد يكون محقا فى رغبتهم تلك، ولكن الهجرة والاغتراب لها مالها وعليها ما عليها، وتاريخيا فإن واحدة من طبائع الشعب المصرى أنه لا يميل إلى الاغتراب عن وطنه، فهو مرتبط بأرضه لآلاف السنين ارتباطا لا فكاك منه، وهو لا يطيق البعد عنها إلا قسرا وتحت ضغوط خارجية أو داخلية.
ومازلنا نتذكر حزن العائلة عندما كان يطلب أحد ابنائها مغادرة بلدته وعائلته، ومع ذلك فقد كانت تلك الهجرات فردية ولم تشكل ظاهرة يلتفت إليها إما الهجرات الجماعية فقد بدأ يعرفها المصريون بالتحديد فى ثلاث موجات كان أولها عندما احتلت القوات العثمانية مصر فى القرن السادس عشر عندما قام السلطان سليم الأول بتهجير قسرى للحرفيين والصناع المهرة إلى الاستانة ومن ثم إفراغ مصر منهم، وكانت الموجة الثانية هجرة داخلية عندما تم تجميع شباب الفلاحين لحفر قناة السويس بأظافرهم وأدواتهم البدائية، تحت نظام السخرة، وبعدها عاد بعضهم إلى قراهم ودفن الكثير منهم تحت رمال الصحراء، أما الموجة الثالثة من الهجرات الجماعية فقد بدأت مع تنامى أسعار البترول وتحقيق دول الخليج لثروات مالية كبيرة رؤى أن تستغل فى تنمية تلك الدول واستطاعت تلك الدول جذب الآلاف للعمل فى كل نواحى الحياة الاقتصادية والثقافية، ومرة أخرى عاد من عاد وبقى الكثير يقضون زهرة شبابهم بعيدا عن عائلاتهم وذويهم.
 وكما أفرغت سياسة العثمانيين مصر من حرفييها وصناعها المهرة فإن الموجة الاخيرة، ومع أنها كانت اختيارية، إلا انها أدت إلى نتيجة مشابهة عندما رحل حرفيوها المهرة، بل وعلماؤها إلى خارج الوطن منهم، واذا كانت تلك الهجرة سواء المؤقتة منها أو الدائمة قد ساعدت الشباب على الخروج من عنق الزجاجة وتحقيق انجازات مادية وثقافية لا يستهان بها فى دول الغرب ودول الخليج، الا أنها ادت إلى حرمان الوطن من كفاءات كانت قادرة على المساهمة فى تنميته لو أحسن استغلالها والاستفادة منها وهو ما لم يحدث وما زال نزيف هجرة العقول والكفاءات مستمراً دونما رغبة فى إيقافه أو حتى الاستفادة من خبراتهم حتى مع بقائهم خارج الوطن.
وربما كانت تحويلات العاملين فى الخارج خلال العقود الأخيرة خاصة مع تناقص قدرتنا على التصدير مصدرا مهما للدخل القومى إلا أنه فى خضم التركيز على الحسابات البنكية العملات الصعبة التى يجلبها العاملون بالخارج فقد تناسينا وتغاضينا عن السلبيات الاجتماعية والتى تتزايد يوما بعد يوم والتى أقلها ضياع اجيال من الشباب نتيجة غياب رب الاسرة الذى انهمك فى تجميع الاموال ورغبته فى تأمين مستقبل ابنائه، والنتيجة ان تحول إلى مجرد ممول مهمته ضخ المال إلى اسرته، وضاع دوره التربوى، وفقدت الأسر تماسكها، وما ترتب على ذلك من تداعيات وربما كان ذلك واضحا فى الحضر والمدن إلا أنه أوضح فى الريف، ولنا ان نتخيل مدى التأثير السلبى على أسرة العامل الذى يغيب عن أسرته لعامين على الأقل، قبل ان يتاح له  فرصة الحصول على إجازة سنوية.
 وتغير وجه قرانا الثقافى فلم يعد الاهتمام بالأرض وفلاحتها من أولويات الفلاح الذى بات ينتظر فرصة لمغادرة الأرض والوطن وإذا أضفنا إلى ذلك الرغبة العارمة فى تجريف الارض الزراعية وإقامة غابات خرسانية فوقها بعوائد الغربة، ومن ثم أصبحنا نستورد طعامنا من الخارج وأصبحنا تحت رحمة الموردين لها ناهيك عن تأثير ذلك على الأمن القومى الذى لا يخفى علينا.
 وأخيرًا فقد ساهمت تلك الموجة من الهجرة على تنامى الأفكار الوهابية فى أوساط العاملين خاصة فى دول الخليج وبدأ البعض فى تقليد الثقافة والعادات القبلية ونقلها إلى المجتمع المصرى واعتبارها جزءًا من العقيدة الاسلامية وساهم ذلك فى تفشى سلبيات كان أقلها ظهور الحركات الإسلامية والتطرف فى فهم تعاليم الإسلام السمحة.
ألم يحن الوقت بعد لوقفة موضوعية نقيم فيها تلك التجربة ونضع حدا لسلبياتها الاجتماعية والثقافية ونحولها إلى إيجابيات قبل فوات الأوان؟