السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

مازالت شظية من حرب النصر تتوج جبينه

مازالت شظية من حرب النصر تتوج جبينه
مازالت شظية من حرب النصر تتوج جبينه




عيسى جاد الكريم يكتب:


ست سنوات من المرارة عاشتها مصر كلها، وعاشها أهلنا فى الصعيد بوجه خاص، بعد نكسة 67 وحتى تحقق النصر، وتحررت سيناء فى أكتوبر 1973، المرارة التى كان يشعر بها أهل الصعيد خاصة، كان مرجعها أنهم يشعرون بالوجع لأن الهزيمة التى لحقت بالوطن وجيشه وجعلت جزءًا غاليًا من أرضه تحت الاحتلال الإسرائيلى، كانت فى عهد رئيس صعيدى، كان الصعايدة ومازالوا يفتخرون به، كرمز وحاكم وطنى تولى حكم مصر التى يجرى نيلها من الصعيد تجاه الشمال؛ فجمال عبد الناصر هو امتداد لسلاسل قادة الصعيد من أيام مينا موحد القطرين.
مرارة جراح الهزيمة التى شعر بها رجال الصعيد ونساؤه تعمقت، بعد وفاة عبد الناصر، الذى بكاه الجميع واطفأوا ليلة وفاته القناديل فى منازلهم، حزناً عليه بعد ان وصلهم خبر موته؛ ثلاث سنوات كانوا يحملون الأمل بين ضلوعهم، لكى يصلوا للنصر تحت قيادة جمال، ليثأروا للوطن ولرجولة أبناء الصعيد، التى حملها جمال على اكتافه كرمز وحاكم لمصر؛ كان الرجال يرسلون أولادهم للحرب وهم يعلمون أنهم ربما لا يعودون، ثلاث سنوات كانوا يتمنون أن يتحقق النصر وتغسل مصر عار الهزيمة المباغتة على يد جمال، مات جمال وزادت المرارة ولكن ظل الأمل فى قلوب الناس.
فلولا أننا تمسكنا بالأمل على مدى ست سنوات ما استطعنا ان نصل للحظة النصر فى السادس من أكتوبر، تمسكنا بالأمل ولم نلتفت لما كان يحاك من بث روح اليأس والانكسار لترسيخ العجز، اكملت مصر وشعبها طريق الأمل بعد تولى السادات رئاسة مصر، احبوه، صبروا عليه كما صبروا على جمال ثلاث سنوات لتحقيق النصر، قبل أن يباغته الموت، ولم يُخيب السادات ظن المصريين، ولم يزد يوما على الثلاث سنوات التى اعطوها مهلة له لغسل عار الهزيمة بعد ثلاث سنوات من موت جمال، حققت مصر الانتصار والعبور تحت قيادته، فى بيوت أهل الصعيد زينت صور السادات بزيه العسكرى حوائط المنازل، حتى تلك الصغيرة المبنية بالطين التى أصبحت فى مأمن من الفيضان بعد ان بنى جمال السد العالى، كانت تزينها صوره السادات وجمال بالزى العسكرى، فالناس يمكن ان تصبر على الفقر ولا تطيق ان تعيش دون كرامة، محنية الرأس، مكسورة الفؤاد، مقهورة الرجولة، جاء النصر فاشرأبت اعناقهم وتهللت وجوههم وواصلت سواعدهم البناء.
خالى فرج معبد صبرة الذى افتخر بأنه أحد الذين شاركوا فى حرب السادس من أكتوبر، واحد من هؤلاء الرجال الأبطال الذين شاركوا فى الحرب، وعايشوا سنوات الانكسار التى عاشتها مصر بعد الهزيمة، وساعات النصر التى شعرت بها مصر كلها، ويحكى أن الحرب لم تكن نزهة، والأرض التى تم تحريرها حررت بالدم والنار وثأر حمله الرجال على اكتافهم سنوات متوكلين على الله، واهبين أرواحهم له، مجاهدين فى سبيله، عازمين على الثأر للأمة وللوطن من المعتدين، فى مشقة وتعب وتدريب ليل نهار، فالرجال الذين كانوا على جبهات القتال لم يكونوا وحدهم هم من يقاتلون، فخلفهم جيوش تقاتل، أمهات تصبر وتدعو، وزوجات ترعى وتربى، وأطفال صغار شبوا على آلام فراق آبائهم، فنحتت فيهم أوجاع الفراق صلابة الرجال وعظم المسئولية الوطن كله كان يحارب كل فى مكانه، حتى نعبر من الهزيمة إلى النصر، حتى نزيح عن رءوسنا عار الهزيمة لنضع تاج الفخار والكرامة.
يحكى كيف كانت كتيبتهم تترك باليومين دون طعام أو ماء، وتتأخر التعيينات عليهم حتى يدربونهم كيف يتحملون الجوع والعطش فى أصعب الظروف إذا ما نشبت الحرب، كان كل شىء مخطط وصدق الرجال الوعد وأوفوا بالعهد وضحوا بأرواحهم فى سبيل الله، راضين ليحققوا النصر لهذا الوطن ولشعبه الصابر.
كان ضمن جنود المدفعية فى كتيبة دفاع جوى، ومدفعية غرب الإسماعيلية كانت مهمتها استهداف طائرات العدو الإسرائيلى ومنعه من الوصول، حناجر الرجال انطلقت تردد «الله اكبر» فى صهد الشمس، تشق صمت الصحراء لتحيل قلوب المقاتلين لربيع، مقدمين على الموت بعزم المؤمنين، لا يخافون اليهود المرابطين فى حصون خلف الضفة الأخرى من القناة، صوت «الله أكبر» كان يجلل فى كل الأرجاء وظلت الانتصارات تتوالى وقاتلت الكتيبة المدفعية والدفاع الجوى ودافعت دفاعاً مستميتاً لمنع الطيران الإسرائيلى من الدخول.
وفى اليوم الثالث من الحرب، وقرب الفجر الذى كان البدر يضىء صحراءه، ضربت غارة مكثفة من عدة طائرات موقع الكتيبة، فأصيب من أصيب، واستشهد من استشهد، وفقد أبطال أطرافهم، وبينما يساعدون الجرحى جاءت الموجة الثانية، لا تفرق دقائق عن الغارة الأولى، لتنشر الدمار، ولم يشعر بشىء إلا وهو فى أحد المستشفيات، اخبروه انه كان فاقداً للوعى منذ أيام.
يذكر ميخائيل جرجس صديقه العسكرى المسيحى ابن إحدى القرى المجاورة لقريتنا، الذى استشهد فى الحرب، فيترحم على كل الشهداء، على النقيب السايح الضابط الذى استشهد من قريتنا، فاطلقوا اسمه على أقرب محطة قطار لبلدتنا، يترحم على الرجال الذين استشهدوا دفاعاً عن هذا الوطن.
يضع يده على جبهته ومن عظام جمجمته تبدو بارزة شظية من شظايا الحرب غطاها الجلد، سكنت جمجمته، فآثر الأطباء أن يتركوها طالما أنه استطاع أن يسترد وعيه، ففى محاولة انتزاعها من عظام الجمجمة ما يهدد حياته، كان يشعر بشكة فى جبهته عندما كان يحاول السجود فى صلاته ولكن مع الوقت خفت حدتها، بعد اصابته بخمسة شهور عاد لكتيبته بين صفوف الرجال، فالحرب لم تنته من يومها حتى الآن، ولكن نحن فقط فى حالة هدنة، حربنا مع اليهود لم تنته، فنحن فقط فى حالة هدنة ويجب ان نكون متيقظين، هكذا يردد دائما، انهى خدمته فى 1975 ومازالت الشظية التى تسكن عظام جمجمته مصدر فخره واعتزازه، تخطى عامه السبعين اعطاه الله الصحة والعافية.