الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

كامل زهيرى.. صاحب مدرسة «الهواء الطلق» فى «روزاليوسف»






تاريخ طويل ومعارك عديدة خاضها نقيب نقباء الصحفيين العرب كامل زهيرى الذى رحل فى الرابع والعشرين من نوفمبر عام 2008، منذ بداياته الصحفية فى الأربعينيات حتى وفاته من خلال مقالاته وكتبه الهامة التى نشرها ومعاركه الصحفية الكبرى التى سجلها التاريخ ضد إفساد حرية الرأى وقمعها، تأتى ذكراة الآن فى وقت مأزوم من تاريخ مصر تحتاج فيه للاسترشاد بمواقف كتابنا ومفكرينا القوية المستمدة من ثقافتهم الرفيعة وموسوعية وإدراكهم كيفية الحفاظ على حرياتهم التى هى حرية الشعب ولانتزاع حقوقهم ممن يحاول السطو عليها.
 
 
أحيانا يكون من الصعب الحديث عن الأب خاصة إن كان أبا من طراز خاص، يأخذ فى حياة أبنائه عدة أشكال أخرى غير الأبوة تختلط جميعها معا وتشكل علاقة مميزة ومكتملة بين الأب وابنه، هذا ما ظهر فى حديث الابن الأصغر عمرو كامل زهيرى الذى تحدث كثيرا عن والده ومعلمه وصديقه واليوم بعد رحيله هو قرينه الذى لايفارقه، فقد أكد أنه كان شخصا مؤثرا جدا ولازال يعيش معه حتى الآن، ويعترف بفضله عليه فى السفر للدراسة بفرنسا وتشجيعه حتى حصل على درجة الماجستير واقتراب حصوله على درجة الدكتوراة فى «الصراع العربى الإسرائيلى بالصحافة الفرنسية».
 
لفت عمرو للتجربتين الصحفيتين الهامتين بحياة كامل زهيرى وهما «روزاليوسف» مع الأساتذة الكبار أحمد بهاءالدين وإحسان عبدالقدوس والسيدة فاطمة اليوسف و «دار الهلال» التى تربى على موسوعاتها نظرا لاهتمام كامل زهيرى بالتاريخ والثقافة وهو ما ميز إصدارات الهلال فى وقته.
 
عن تجربته كنقيب للصحفيين يقول عمرو: كان نقيبا للصحفيين مرتين الأولى عام 1969 بعد النكسة، فكان من جيل مؤمن بوجوب خروج مصر من سطوة الغرب وكان من المؤمنين بالنهضة لمصر وفى عام 1971 اصدر قانون نقابة الصحفيين.
 
 المرة الثانية التى انتخب فيها نقيبا كانت عام 1979 تزامنا مع اتفاقية كامب ديفيد وخاض معارك سياسية كبيرة لحرية الصحافة، لأنه مؤمن أن الصحفى هو المعنى الواضح لحرية الرأي، فاستقلالية الصحافة مهمة لأنها ليست حزبا واحدا، وانها من المهن ذات الخصوصية والالتزام الأخلاقى وقائمة على المعلومات، كان مهتما بالثقافة والرسم وكان مفكرا ومهتما بالقضايا العربية، فكان يقول دوما: إن عروبة مصر ليست عباءة نرتديها وقت ما نشاء ونخلعها وقت ما نشاء، كما اصطدم فى فترة من الفترات بوزارة الثقافة رافضا لسياستها التى اهتمت بالحجر على حساب البشر.
 
سكت عمرو قليلا لتقفز إلى ذهنه جملة جعلته يضحك قبل أن يفصح عنها، وهى أن كامل زهيرى كان دائما ما يكتب أنه من عجائب مصر أنها تضع الأحذية بالفتارين بينما تضع رغيف العيش على الأرض.
 
وأردف: فى مقالاته نجده دائما ما يلتقط مفارقة الجزر المنفصلة لقطاعات العمل بمصر والفساد الإدارى ومحاولات تكبيل الصحافة من خلال قانون الصحافة الذى ظهر عام 1996 الذى قاومه الصحفيون تماما ورفضوه، فكان كامل زهيرى يؤكد دوما على قوة النقابة وأن تكون صمام الأمان للصحفي.
 
سألته عن الأعمال الفنية لوالده المتبقية لدى الأسرة، فقال: الحقيقة أنه ليس لدينا سوى القليل حيث أهدى الكثير منها، إضافة إلى أنه فى وقت قريب كنا على سفر وعند عودتنا فوجئنا بسرقة شقتنا وسيارتي، ونحاول استرجاع هذه السرقات الآن من السارقين.
 
تذكر عمرو أحد الأفكار والمشروعات التى نادى بها والده وتقوم على إيمانه بالثورة والتغيير وكان من الدعاة الإصلاحيين، فكثيرا ما نادى بأهمية الاستفادة من الطاقة الشمسية وأن نكون روادا فيها ونصدرها للخارج، كما أن كامل زهيرى كان معجبا بالصحافة الفرنسية على وجه الخصوص لاهتمامها بالمضمون والمحتوى العلمى والثقافى أكثر من الصحافة الأمريكية، كذلك مساحة الحرية الكبيرة فى نقد الحياة السياسية والشخصيات السياسية بما فيهم رئيس الدولة على كل المستويات بالكتابة ورسم الكاريكاتير، وأنهى عمرو حديثه ضاحكا : كان يكره المال ويحب العمل طوال الوقت ويقرا كل الجرائد يوميا ويحللها.
 
 

 
من أولياء الله الصالحين                              
 
فى تدفق شديد وكأنه شريط من الذكريات الذهنية الحية مر برأس الكاتب الصحفى الأستاذ منير عامر الذى قام بالترجمة الفورية لهذه الذكريات ليسردها فى شهادة متخمة بالتفاصيل والمعانى والرسائل الأخلاقية والإنسانية الراقية ليبدأ بجملة قوية، بقوله: هو أحد أولياء الله الصالحين، اقول ذلك لأننا نخطئ فى فهم معنى ولى الله الصالح، فالولى الحق ليس هو المنعزل عن الواقع فى قوقعة بعيدة عن الزمان والمكان ولكنه من يحيى حياة البشر والإحساس عن طريق المستقبل نحيا فيه جميعا بأقل قدر من الكدر وأعلى قدر من الفهم والتآزر.
 
هو الإنسان الذى تمرد على الجلوس فى مكتب للمحاماة كى لايجبره أحد على ان يضع القوانين على مائدة العبث بها بين قطاعات المحاكم، واختار أن يُعلم ويتعلم ويشرب بعيونه عشرات المئات من الكتب، ليخرج لنا عسلا مصفى باسم «كتاب جديد»، وتحت هذا العنوان كشف لنا أستاذنا كامل زهيرى – على سبيل المثال- أفكار كيسنجر فى عام 1957 وحذرنا من أن الولايات المتحدة ستتبع نهج الرجل ليحقق مجازر دامية فى منطقتنا.
 
وفى اليوم العادى كنا نحيا معا أساتذة وتلاميذ فى انتظار يوم الإثنين حيث كانت السيدة فاطمة اليوسف تسمح لأى منا أن يقرض أو يقترض مبلغ من 2جنيه إلى خمسة جنيهات، وهنا كنا قد سبقنا الأجيال المعاصرة فى ترجمة معانى أغنية القائلة « أمى مسافرة وحاعمل حفلة»، كان الكباب يتجاور مع الطعمية وتجاورهما لحمة الرأس لنأكل جميعا من مائدة مصنوعة من مكاتبنا التى كنا نضمها معا لنصنع منها طاولة طعام ومن بعد ذلك يشجينا بصوته «أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العزول»، على هذه المائدة فى أحد أيام الإثنين استمعنا إلى قصيدة صلاح عبدالصبور التى يقول فيها:
 
هذا زمان الحق الضائع
 
لايعرف فيه مقتول من قاتله ومن قتله
 
فرؤوس الناس على جثث الحيوانات
 
ورؤوس الحيوانات على جثث الناس
 
فتحسس رأسك
 
تحسس رأسك
 
تحسس رأسك
 
كامل زهيرى كان يمثل بالنسبة لنا واحدا من صوت موسيقى شديد الخصوصية، يهب ويلهب مميزات ما نكتب وعيوب مانكتب مع شرحه للمميزات والعيوب يطالبنا أن نعيد ونستعيد ما كتبناه، وهو أول من أطلق على مدرسة روزاليوسف مدرسة «الهواء الطلق»، كانت تربطنى به علاقة شديدة الخصوصية فأنا صديق شخصى للفنان سيف وانلى رسام الإسكندرية الكبير وصديق ايضا للفنان المثال كمال خليفة وكان عشق كامل زهيرى للرسوم والتماثيل يفوق اى خيال، وكان يتفاخر على بأنه صادق الفنان محمود سعيد وحامد ندا وراغب عياد، وكان يجمعنا الحوار على الفن ونحن نسير إلى دار الأوبرا لنلتقى بصديقه الأثير الفنان الكبير عبدالرحمن صدقى الذى أدار الأوبرا لسنوات ومعه شريكه فى العشق العظيم لفنون الأوبرا شكرى راغب لنشاهد أوبرا «لاترافيتا» ونزورهما مرة أخرى لنستمتع بأوركسترا القاهرة السيمفونى بقيادة المايسترو اليوغوسلافى «ليتشاور» الذى اختاره ثروت عكاشة لتأسيس الأوركسترا وفى اليوم التالى قد نذهب لأداء صلاة الجمعة فى مسجد سيدى الحنفى الذى كان يقرأ فيه الشيخ محمد رفعت..ولم يكن محمد رفعت على قيد الحياة فى ذلك الزمن ولكن كان كامل زهيرى يقترح أغرب اقتراح يسمعه بشر!.. قال لى : لا تنظر إلى قارىء القرآن الذى يقرأ الآن، ولكن استحضر صوت الشيخ رفعت وأنت جالس فى رحاب هذا المسجد.
 
 

 
ولا أنسى أننا خرجنا بعد أداء الصلاة نركب أول سيارة متهالكة من ماركة هيلمان الإنجليزية وتوقفت بنا فى الطريق الصحراوى ونزل يبحث عن أى شىء يصلحه بها ووقعت نظارته على الأرض وتكسر زجاجها ثم أدار العربة لنصل إسكندرية بعد خمس ساعات وهو يرتدى نظارة بعدسة واحدة أما العين الثانية فكان زجاحها مكسور، كان أستاذنا أحمد بهاء الدين قد اكتشف تلك الخلطة الفنية العجيبة فى كامل زهيرى وما أن تولى قيادة دار الهلال حتى أخذ معه كامل زهيرى ليرأس تحرير مجلة الهلال وأخرج المجلة من ركودها وجعلها مجلة من طراز ثقافى رفيع وبسيط فى آن واحد.
 
وبعد ثلاث سنوات عاد إلينا رئيسا لمجلس إدارة روزاليوسف لنخوض معا مرارات أيام نكسة عام 1967 وكان يقدم قصة من حياة الشعوب أثناء الحروب بشكل فنى أخاذ وما إن مات جمال عبدالناصر حتى كانت استقالة كامل زهيرى قد وصلت إلى مكتب الرئيس السادات وهاجر الرجل إلى بيروت لعدة شهور، وما أن تولى عبدالرحمن الشرقاوى رئاسة مجلس الإدارة حتى قدمت مقترحا إلى أستاذنا لويس جريس الذى كان صديقا شخصيا للشرقاوى كى نقايض دار التحرير فى أن يذهب إليها زهيرى كاتبا يمكن أن يثريها ببابه الشهير «من ثقب الباب» ونستعيد نحن أستاذنا فتحى غانم ليكتب فى صباح الخير وروزاليوسف، وفى أسبوع واحد تم تنفيذ الاقتراح وأطل كامل زهيرى كاتبا على القراء فى الجمهورية وأطل فتحى غانم على القراء فى صباح الخير برواية «زينب والعرش»، وكان كامل زهيرى مثقفا نادرا، ولذلك تولى بإبداع شديد تأسيس مكتبة باسم مكتبة «القاهرى الكبرى» فى أحد قصور الزمالك الفارهة حيث أمضى سنواته الأخيرة فى رحلة إضافة الكتب لأرفف المكتبة وإقامة الندوات لمناقشتها ولم ينس أبدا عشقه السنوى لاستقبال السنة الجديدة من كل عام على هضبة الهرم ، وعندما أزور «روزاليوسف» وأتوقف فى الدور الرابع وأرى طيف كامل زهيرى قادما من مكتبه ليلتقى بطيف عبدالغنى أبوالعينين ويستقبلهما طيف صلاح جاهين وضحكات بهجت لندخل جميعا إلى غرفة إحسان عبدالقدوس –التى تمثلها خزانة روزاليوسف الآن- لنشرب قهوة الصباح من يد عم سيد صاحب بوفيه روزاليوسف الذى كان لايقدم لنا قهوة مصنوعة من البن إلا بحجرة الأستاذ إحسان، أما بقية القهوة التى نشربها بمكاتبنا فهى من الحمص المحمص أو السودانى أو أى نبات آخر.
 
«عضوية النقابة كالجنسية ليس من حق أحد إسقاطها»              
 
الكاتب الصحفى سعد هجرس كان يحاول التقاط نقطة البداية التى ينطلق منها لوصف علاقته ورؤيته لنقيب النقباء كامل زهيرى ليبدأ شهادته قائلا: الأستاذ كامل زهيرى هو واحد من ثلاثة أساتذة تعلمت منهم أكثر مما تعلمت من أى أحد آخر، فلم أتعلم فقط اصول الصحافة وإنما الأخلاق والإخلاص، كامل زهيرى مدرسة عجيبة جدا.. فهو مدرسة، موسوعية تعلمت فيها الثقافة مع الفن التشكيلى مع التاريخ مع ذاكرة المدن مع الثقافة القانونية مع أدب الرحلات مع الخبرة النقابية الغزيرة جدا جدا، فنحن نتحدث عن شخص استحق لقب « نقيب النقباء» إضافة إلى أنه من أمراء الكلام ولايتوقف عن الحديث المتدفق والعذب الذى يجمع بين العمق الشديد والجدية وبين خفة الدم منقطعة النظير.
 
أذكر لكامل زهيرى معركته الشهيرة ضد السادات عندما أراد تحويل النقابة إلى ناد وحاول فصل الصحفيين المعارضين لسياسته من عضوية النقابة، فنذكر جملته الشهيرة «إن عضوية النقابة كالجنسية ليس من حق أحد إسقاطها»، وقاد الصحفيين فى معركة رائعة أحبطت خطة السادات وانتصر لحرية الصحافة واستقلال النقابة.
 
 

 
أحب ان أضيف أن زهيرى رغم تقدمه فى السن لم يتوقف عن التعلم، فحين كانت هناك منحة بالنقابة لتعلم الكمبيوتر وجدته زميلى بنفس الفصل وكان قد تخطى السبعين من عمره، ووقتها كان زملاؤنا من الصحفيين الشباب « بيتريقوا» علينا.
 
ويكمل: أما سهراتنا على النيل وجلساته كانت فى حد ذاتها جامعة مفتوحة وكنا ننهل منها يوميا فأنا كنت محظوظاً جدا، فزهيرى كان يرى أن المدن مثل النساء فكل مدينة لها طعم مختلف كما أن السير معه فى شوارع القاهرة كان عجيبا جدا لاهتمامه بالعمارة وكان يعرف القاهرة بحضاراتها الخمسة، فكان متشربا للخط الرابط بين هذه الحضارات، ومتعته النظر للمعمار وكان يحكى عن تاريخ كل طراز إضافة لثقافة فن تناول الطعام، فكان محبا للحياة والموسيقى وكما نعلم أنه كان رساما أيضا، لكن من أجمل مافيه ملكة الكلام حتى أننى فى أحد انتخابات النقابة قلت له إنك بسبب الكلام ستتنسى برنامجك الانتخابي، إضافة إلى أنه كان مدرسة إنسانية خاصة، أنه كان من القليلين ممن هم قاهريون الذى كان يرانا نحن الريفيون مسئولين عن ترييف المدن، وكانت لديه ميزة عظيمة وهى إجادته لعدة لغات مما جعله منفتحا على الثـقـافـتـين الشـرقـيـة والغربية أيضا.
 
كامل زهيرى فى رتوش
 
ولد محمد كامل زهيرى عام ١٩٢٧، وتخرج فى كلية الحقوق عام ١٩٤٧.
 
عمل محررًا فى روزاليوسف مشرفًا على باب «خارج الحدود»، ثم أسندت إليه كتابة عمود «حاول أن تفهم» خلفًا لأحمد بهاء الدين الذى تفرغ لتحرير مجلة «صباح الخير»، ثم أصبح رئيسًا لمجلس إدارة المؤسسة ورئيسًا لتحرير المجلة إلى أن ترك العمل بها فى ٣٠ يونيه ١٩٧١. كما عين رئيسًا لدار الهلال، ورئيسًا لتحرير مجلة الهلال الشهرية، ثم مديرًا لتحرير صحيفة الراية القطرية عام ١٩٨٥.
 
قدم زهيرى العديد من المؤلفات للمكتبة العربية السياسية، منها فى بداية حياته الصحفية: ممنوع الهمس، والغاضبون، والعالم من ثقب باب، وفى السنوات الأخيرة مثل: النيل فى خطر، وحرية الصحافة بين المنح والمنع، والرد على بيجن بالوثائق.
 
أحدثت كتبه الثلاثة الأخيرة ضجة هائلة فى مصر والعالم العربي، فـ«الرد على بيجن بالوثائق» يفند فيه ادعاءات رئيس وزراء الدولة الصهيونية، ثم كتاب: «النيل فى خطر» الذى أحدث بينه وبين السادات قطيعة كاملة .. وكتابه الثالث «حرية الصحافة بين المنح والمنع» وكان من أخطر الوثائق التى أسقطت قانون المطبوعات الذى حاولت الدولة إصداره فيما بين عام ١٩٧٧،١٩٧٩ وسحبته لتقدم بدلاً منه قانونًا آخرًا هو القانون ١٤٨ لسنة ١٩٨٠ .