السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

لُعـْبـَةُ الْحـَمـْلَقَةِ فـِى الْفَرَاغِ الْقَاتـِمِ

لُعـْبـَةُ الْحـَمـْلَقَةِ فـِى الْفَرَاغِ الْقَاتـِمِ
لُعـْبـَةُ الْحـَمـْلَقَةِ فـِى الْفَرَاغِ الْقَاتـِمِ




سعد على يكتب:

فى الصباح يستيقظ أبى مبكرًا، ليعد نفسه للذهاب إلى العمل.. عادة ما أكون مسترخيًا غير نائم، فأستمع إلى قرقعة قدميه فى صالة البيت الطويلة، حتى يمضى مخلفًا وراءه فراغًا يتسع حين تتبعه أمى.. أدفن رأسى فى الوسادة، وأغسل دموع الأمس بدموع اليوم على ما أنا فيه بعد تخرجى من الجامعة دون عمل، حتى يوقظنى أذان الظهر، الذى ينساب من حنجرة ندية عذبة، تملؤنى خشوعًا وأملاً، فلا أجد شيئًا أفعله إلا أن أقرأ شيئًا من القرآن تعلمته على يد شيخى يومًا (أحمد الزغبى)، حتى يصيبنى النعاس من شيطان أقرع من كثرة استرجاع ما حفظت يومًا، وحين يعود الجميع بعد الظهر يجدوننى متجمدًا مكانى، أحملق فى الفراغ القاتم، أو فى الصور المعلقة على الجدران، حتى تأخذنى إلى عوالم من النسيان والغياب.
ثم أخرج مودعا فراغ بيتى لعلى أجد ما يشغلنى عنه، فأنزوى بعيدًا إلى قارعة الطريق، فلا أقابل إلا شبحًا من بعيد ينادينى، وأنا جالس على شاطئ الماء الجارى إلى أرض تفيض فتصنع ما نقتات به وتعيننا على ظروف الحياة، رآنى وحيدًا شاردًا حالمًا، فإذ به يحدق لى بنظرات هامسة، وكأنه يقول لى لا تدع اليأس يحطم أحلامك مصداقا لقول الله «ولا تيأسوا من رحمة الله»، ثم أغمض عينى وكأننى أحلم مستفيضًا.
ثم أرجع إلى البيت وأقابل أبى وأحدثه لماذا لا تأخذنى معك إلى عملك؟ إلا أنه تركنى والحزن ينشب مخالبه الحادة فى روحى فيأكلها، ويسدل جفينه ويذهب فى نوم عميق. فأترك مخدعه، وأذهب إلى شقيقى لأتحدث معه، فإذ بى أسمع ترانيم غطيط متلاحقا، فأعود إلى سريرى، لكن النوم لم يأت بعد.
 ذهبت إلى صالة البيت وبدأت أمارس لعبة الحملقة فى الفراغ حتى أجد الجميع قد ناموا حتى يستيقظوا مبكرًا، فأخلو إلى متاهاتى الغائمة، وتتهادى من بعيد أطياف حكايات قديمة، فيحل الشجن، وتتسلل الدموع حتى تبلل الأوراق التى وضعتها أمامى على طاولة الطعام ؛ إثر صديق سافر إلى بلاد الخليج بطريقة مغامراتية فانتازية؛ نظرًا لضيق الحال ولعدم امتلاكه مالاً أو عقد عمل يسافر به بطريقة شرعية فإذ بالحظ يسعفه وينجح ويجمع من غدق الأموال ما شاء، فأردت أن أتخلى عن حملقتى وأعيش تلك المغامرة يومًا؛ لعلى أنتشل أبى وأمى من براثن فقر لعينٍ، ومن المرض الذى أصاب أمى أيامًا وأعوامًا، فتعرفت على ملامح رجل لا ينتسب عادة إلى وجهاء القوم كما يقولون، حتى وجدت عنده أٌلوفًا من الشباب، وكأنه يمتلك عصا موسى فى بلاد الفقر، فتكتمل تلك المغامرة، ويزج بنا جميعا فى مركب أكل منه البحر كثيرًا وشبع، وبشراعه يتخبط بنا من هنا وهناك، وكأنه لباس مرقع يحمينا من غدر متربص بالبحر، حتى كان صوت الحيتان بالغضب فى القاع كان أعلى، وكأن قدر الموت قد أتى، فتنسدل قوة خفية تسحب روحى إلى البعيد ويقع مشهد أمامى لأول مرة، تجزئ الناس أمامى إلى قطع صغيرة. أشلاء من لحم تقطر دمًا. ملامح تتباعد حتى تغور فى قيعان لا نهاية لها، ألوان حمراء لا تلبث أن تسود حزنًا على ما حدث بنا تمامًا، فمى يزبد ويرغي، وصدرى يفور.
أتقلب وأجأر كحيوان يذبح، فأتذكر أمى ونقودها التى أعطتها لى ذات مساء.. فإذ بيدها ترتعش، وعيناها تدمعان، وهى تمد النقود لتدسها فى يدى الباردة. وسألتها إن كان هناك شىء يحزنها، فهزت رأسها بالنفى، وربتت على كتفي. لكنى أعرف الآن لماذا هى كانت حزينة، ولماذا كانت تذهب إلى الحمام لتغسل وجهها أكثر من مرة فى الليل والنهار، لتخرج من حالة الضيق التى تنتابها كلما رأتنى منزويًا شارد الفكر، أحملق فى الفراغ الممتد هناك فى السماء البعيدة، لكن ليس لى ذنب فى ذلك فإنه ذنب دولة أعطت لى ظهرها يومًا، فعشت وحيدًا أنتظر رزقا أو منحة تمنها علىّ، حتى أصبح داء الانتظار يصيبنى بخمول ويضعنى أحيانًا على حافة الغياب والنسيان، وستجعل باستطاعتى أن أصرخ ذات مساء فى وجوه الدولة والنظام جميعًا.