الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

تجربة شعب.. عندما يصير الكل فى واحد

تجربة شعب.. عندما يصير الكل فى واحد
تجربة شعب.. عندما يصير الكل فى واحد




د. محمد محيى الدين يكتب:

إذا لم نتعلم من خبرتنا فى الماضى فنحن نرتكب أخطاء فاحشة فى مسيرتنا التنموية والسياسية، وسنظل أسرى للمربع الأول، محاولين إعادة اختراع العجلة، ونترك المجال لمدعى المعرفة وامتلاك الحقيقة ينقلون لنا أفكارًا خارجية، قد تتسق مع مجتمعاتها ولكنها ليست بالضرورة تتفق معنا، ودراستنا للماضى ليس من أجل التهوين من أخطائه أو التهويل والتضخيم لمنجزاته، ولكنها فرصة لتعلم الدرس العملى يساعدنا للانطلاق للمستقبل.
فى هذا الإطار أعتقد أن تجربة عبدالناصر مع الإعلام فى مصر تستحق إعادة نظر ودراسة متأنية فهى فريدة من نوعها على المستوى الوطنى، بل والعربى، وقد آن لنا أن تتوقف ويتوقف نخبتنا عن إهالة التراب ونعت التجربة الناصرية بكل أوصاف الديكتاتورية والرأى الواحد، وغيرها من التعبيرات المطاطة، سواء بقصد أو بدون قصد، فلا توجد نظرية أو تطبيق فى جميع العلوم تستحق التجاهل أو تتطلب محوها من الذاكرة، مهما كانت سلبياتها، فكل نظرية أو خبرة لها مالها وعليها ما عليها، وخبرة الإنسان إذا فقدت مصداقيتها وتراكمها تتحول عندها الذاكرة إلى ذاكرة الأسماك، وتتحول أفكارنا حول قضايانا إلى سفسطة لا طائل منها فى أحسن الأحوال، وعلى سبيل المثال فما زلنا ندرس تجربة جوبلز وزير الدعاية فى عهد أكبر ديكتاتور عرفته البشرية، ولا شك أن علوم الدعاية والحرب النفسية والحشد الإعلامى وفنون الدعاية الانتخابية أخذت الكثير من خبرة وتطبيق هذا الوزير، مع الكثير من التعديلات والمواءمات السياسية والإعلامية.
ومن عاصر عبدالناصر وتابع الإعلام المصرى آنذاك، يرى فرقًا كبيرًا عما كنا عليه وما أصبحنا فيه من ترد واضح للإعلام حاليا، فقد فقدت الريادة والمهنية وأسلوب الحوار، ولم يعد مؤثرًا بالإيجاب على حياة المصريين الذين اختار الكثير منهم تجاهله، فقد أصبح لا يغنى ولا يسمن من جوع للمعرفة، بل أصبح تأثيره السيئ مجالا للتندر وعدم ثقة فى القائمين إلا من رحم ربك.
كيف نجح عبدالناصر إعلاميًا فى جعل الإعلام المصرى مؤثرًا على الساحة المحلية والدولية؟ ويمكن أن نلخص الإجابة فى أن توجهات عبدالناصر فى مجال الإعلام فى محورها الجوهرى كان إيمانه بأهمية الإعلام ودوره كظهير قوى لسياساته ومشروعه القومى، ومنذ اليوم الأول لتوليه القيادة وحتى قبل قيام بالثورة، احتفظ عبد الناصر بعلاقات شخصية قوية مع رواد الإعلام بمفهومه الشامل الذى قام بتوسيعه، إلى أن يشمل الفنون والسينما والمسرح وأعطاهم من شخصيته الكاريزماتية وإيمانه بعدالة قضيته التنموية والقومية من المدد، جعلهم جزءًا أساسيا فى التنوير والتضحية والدفاع عن قضايا الوطن، ففتح أستاذ الصحافة المصرية أبواب الأهرام لمثقفى وفلاسفة هذا الزمن ليكتبوا ويناقشوا فى إطار غير مسبوق، فتحولت الساحة المصرية تتكلم بصوت واحد، وتوحد فكرهم لخدمة القضية الوطنية ومدفوعين بإيمانهم أولا قبل أن تختط ايديهم بكلمة واحدة، ومن يدعى أن هؤلاء الرواد كانوا أبواقًا للسلطة ظالم، للمرحلة وللرجل، بل ولتاريخهم.
ولا نزال نتذكر دور الفن والفنانين فى معاركنا الوطنية والتى مازلنا نرددها حتى الآن، ومازالت أغانى عبدالوهاب وأم كلثوم والمجموعات الفنية الأخرى تتردد بعد رحيل الرجل بحوالى نصف القرن، ولنا أن نتساءل حول دوافع فنانينا ليجوبوا انحاء البلاد طولا وعرضا لتجميع تبرعات لقائد حاولت القوى العظمى واسرائيل مجتمعة لإسقاطه فى وقت، لم تصدر إليهم تعليمات أو توجيهات ولكنه الانتماء الذى زرعه عبد الناصر فيهم، وايمانهم بقضاياه الاجتماعية والقومية حتى أصبح الكل فى واحد يشاركونه فى تحدى المؤمرات والضغوط والتى فاقت أو تتساوى على الأقل مع ما نعانيه هذه الأيام.
ومن نافلة القول أن التفاف الشعب واصطفافه خلف عبدالناصر كان وراءه فهم الرجل لسيكولوجية الشعب ومصارحته له بكل ما يدور داخليا وعربيا وخارجيا، ولا ننسى قدرته الخطابية والتى كانت الجماهير تنتقل من اليأس إلى التفاؤل والاحساس بالقوة بعد كل خطاب له ومرة أخرى فإن أغلبية من عاش عصر عبدالناصر كان يحس بشراكته ودوره فى تحقيق أحلامه وخططه من تحقيق عدالة اجتماعية إلى بناء سد عال إلى استقلال القرار المصرى.
تجربة عبدالناصر تجربة ثرية تستحق الدراسة المتأنية، وألا تترك للمتثورين الجدد ونشطاء العصر أو من يلبسون قميص عبدالناصر وهم أبعد ما يكونون عن فكره أو معتقداته، والذين يحاولون تشويه التجربة وهم فى الواقع يشوهون تاريخا لشعب كامل ويفقدونه الثقة فى نفسه، ولا عزاء لنا فيما نسمعه إلا عندما نرى صور الرجل فى الميادين والمناداة باسمه فى مناسبات عديدة فى الآونة الأخيرة، وما أحوجنا الآن إلى ثورة إعلامية تعيد شباب الإعلام.