الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

ماذا فعلت بنا يا بلفور؟

ماذا فعلت بنا يا بلفور؟
ماذا فعلت بنا يا بلفور؟




يكتب: د. خالد وصيف

«إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومى فى فلسطين للشعب اليهودى، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يأتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التى تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة فى فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسى الذى يتمتع به اليهود فى أى بلد آخر، وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيونى علمًا بهذا التصريح».
هذه السطور القليلة، كانت هى محتوى الرسالة التى أرسلها وزير الخارجية البريطانى جيمس بلفور فى نوفمبر عام 1917 إلى اليهودى الثرى المعروف اللورد روتشيلد، والتى عرفت فى التاريخ بوعد بلفور، اعترف فيه لأول مرة بوجود «شعب» له هوية دينية واحدة هى اليهودية، وأن هذا الشعب له وطن قومى تاريخى فى فلسطين ويجب مساعدة اليهود فى استعادته.
والمفارقة ان بريطانيا قد قطعت وعودا متعددة خلال تلك الفترة كحوافز لحلفائها فى معاركها بالحرب العالمية الأولى، كان منها وعد آخر للشريف حسين حاكم مكة بإقامة دولة عربية كبرى تحت زعامته، وبينما تعثر تحقيق الوعد بالدولة العربية، فان الوعد الآخر بالدولة العبرية قد جرى تنفيذه بكل دقة.. كما توج مجهودات هائلة بذلتها الحركة الصهيونية العالمية منذ مؤتمرها الاول الذى عقد بزعامة تيودور هرتزل فى مدينة بازل بسويسرا عام 1897.
قبل وعد بلفور، كانت فلسطين تضم ضمن تركيبتها السكانية 5% فقط يهودا، والباقى عربًا مسلمين ومسيحيين، لكنها تحولت بعد هذا الوعد إلى ميناء لسفن تأتى من كل دول العالم وتحمل على متنها أسرا يهودية للاقامة فى أرض الميعاد كما وعدتهم التوراة. لتتغير التركيبة الديموجرافية بها وتستثار مشاعر السكان العرب الأصليين وتبدأ سلسلة طويلة من الصراعات المسلحة بين الطرفين شاركت فيها الدول العربية بمساندة الفلسطينيين وتبنى قضيتهم التى اصبحت القضية المركزية الاولى للدول العربية.
وتغيرت على إثره وللأبد طبيعة منطقة الشرق الاوسط، ووجه بوصلة شعوبها من السعى لنيل الاستقلال ورحيل الاستعمار وتحقيق التنمية، إلى الوقوع فى براثن صراع جديد لأول مرة فى تاريخ المنطقة، وتحول اليهود من مواطنين يتمتعون بكامل حقوق المواطنة فى بلادهم، ويلعبون دورا رئيسيا فى حلبة الاقتصاد والمال، تحولوا إلى أقلية دينية هجرت اوطانها التى عرفتها لآلاف السنين فى مصر والعراق والمغرب واليمن، إلى جيتو مغلق اسمه اسرائيل.
ولو لم يصدر هذا الوعد، فلم تكن لتقع حرب 48 أو 67 أو الاستنزاف وحرب 73 ايضا. وبالتالى لم تكن تخسر مصر اكثر من مائة الف من شبابها، دفاعا عن القضية الفلسطينية التى تحولت إلى قضية محورية للعالم العربى كله، وربما لم تقع ثورة يوليو 52 التى قامت ضمن اسبابها هزيمة حرب 48 واستياء ضباط الجيش المصرى من الاداء المتخاذل للانظمة الحاكمة فى دعم القضية الفلسطينية. لو لم يصدر وعد بلفور، لتركزت الاهتمامات المصرية فى تحقيق معدلات تنمية مرتفعة كنا نملك كل مقوماتها، وبالتالى ستكون مصر على قدم المساواة مثل الدول التى بدأت نهضتها معنا مثل كورياأو بعدنا مثل سنغافورة وماليزيا، دون الاستدراج للدخول فى صراع طويل استنزف مواردنا.
ولو لم يقدم هذا الوعد لاحتفظ اليهود بمكانتهم المرموقة فى المجتمعات العربية، وفى مصر وحدها كان عدد اليهود يقارب الـ 80 ألف نسمة ضمن النسيج المصرى، حيث كانت محلات عمر افندى وبنزايون وعدس وريفولى كلها مملوكة ليهود، وعائلات قطاوى وموصيرى وعدس وسموحة وسوارس كانت تلعب دورا واسعا فى الاقتصاد المصرى، وعائلة سوارس على سبيل المثال كانت تتحكم فى زراعة اكثر من مليون فدان من الاراضى الزراعية، كما ساهمت فى بناء خزان اسوان وانشاء شركة كوم امبوا الزراعية وانشأوا خطوط سكة حديد وشركة لنقل الركاب وهى التى عرفها المصريون بعربات “سوارس”. كما ان مساحات واسعة من الاراضى فى كوم آمبو قامت عائلات كاسل وقطاوى وهرارى اليهودية باستصلاحها وزراعتها.
والنتيجة الاخطر من صدور وعد بلفور، فى تقديرى، هو فتح الباب لتوالى انفجارات الشظايا فى انحاء الشرق الاوسط، ليخرج وحش التعصب الدينى من معقله، ليهدم دولا ويقسم أوطانا على أساس دينى، وتحولت مشاعر الود وقبول الآخر التى ميزت مجتمعاتنا طوال تاريخها، إلى مشاعر كره واقصاء لكل مخالف فى الدين أو العقيدة. بدأ الصراع عربيا صهيونيا ثم تحول إلى اسلامى يهودى، ثم انتقل إلى مرحلة أكثر خطورة تعتمد على التصنيف العرقى والمذهبى ليصبح سنيًا شيعيًا، أو كرديًا عربيًا، ومازالت الانقسامات تتوالى.
لقد فعل بنا وعد بلفور الكثير