الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«أوبرا البلكونة» وثقافة الحرمان

«أوبرا البلكونة»  وثقافة الحرمان
«أوبرا البلكونة» وثقافة الحرمان




بمحض المصادفة تزامن عرض «أوبرا البلكونة» بممر البورصة بشارع وسط البلد مع أحداث تفجير الكنيسة البطرسية بمحيط الكاتدرائية بالعباسية، عرضت الأوبرا يوم السبت ثم تم التفجير يوم الأحد مباشرة، وبرغم تناقض الحدثين تناقضا تاما، إلا أن صيغة الجمع بينهما ليست غريبة لأن ما وصل إليه المجتمع من حالة تجريف ثقافى وفكرى واضح، هو ما أدى لهذا النوع من أحداث العنف والإرهاب، والذى مازالت تتعرض له البلاد يوما تلو الآخر، فما شهده عرض «الأوبرا» بالشارع يؤكد مدى تعطش الشعب المصرى للحياة والفن الراقي، خرج الناس فى تمام الساعة الثالثة عصرا من الشرفات المجاورة للعمارة السكنية التى أقيم بها العرض الغنائي، فى حالة من الفضول والدهشة والسعادة والانسجام، والجميع وقف مستمعا ومستمتعا بما تقدمه المطربة أميرة من غناء عربى وإنجليزى وفرنسي، وعزف الكمان والباركشن، كل هذا تم فى وقت قصير، بإحدى العمارات السكنية التى زارها مخرج ومنفذ هذا المشروع وصاحب الفكرة من الأساس عمر المعتز بالله، والذى يؤكد فى كل مرة أنه يذهب إلى العمارات كى يعاين الشقق ومواقع الشرفات بها حتى يقع اختياره على «البلكونة» الأنسب والتى لابد أن تقع فى الطابق الأول، حتى تناسب مستوى ارتفاع رأس المارة بالشوارع، ولم يحدث أن يترك أطفال صغار لعب كرة القدم بالشارع إلا إذا كان هناك أمر جلل، وكان هذا الأمر هو الموسيقى والغناء، تركوا الكرة واللعب ووقفوا تحت الشرفة صامتين ومنصتين لغناء غربى وشرقي، وكان من أكثر المشاهد لفتا للانتباه بذلك اليوم!!
ذهب عمر فى بدايات هذا المشروع إلى محافظات الدلتا، بورسعيد، دمياط، رأس البر، المنصورة، والجيزة، وكان السبب فى إثارة هذه الفكرة برأسه كما قال «سائق تاكسي»، ويروى المعتزبالله عن سر تأثير هذا الرجل عليه.. «بعد تقديم العرض الموسيقى «back stage»، مع فريق تياترو للمسرح المستقل كان العرض وقتها كامل العدد بعروض الأوبرا، وحتى دار الأوبرا نفسها كانت تقول أن هذا العمل أول عرض مستقل يعرض بشكل تجارى بحت ويحقق هذا النجاح، ففى خلال ثلاث ليالى متتالية كان المسرح محجوز، وفى أحد هذه الأيام استأجرت تاكسى فى طريقى إلى دار الأوبرا وتحدثنا عنها كثيرا، ثم وجدته يعرب عن رغبته فى الذهاب لدار الأوبرا، فدعيته لحضور العرض هو وزوجته وابناؤه، لكننى فوجئت برفضه الشديد، لأنه يرى أن شكله وأسرته غير ملائمين لدخول هذا المكان، ورفض محاولاتي، مؤكدا أن زوجته ستخجل من دخول الأوبرا، شعرت وقتها أن هناك حاجزا نفسيا كبيرا بين الإنسان البسيط وفنون الأوبرا، وهناك هيبة كبيرة خلقها المكان داخل قلوب البسطاء، فكان من أبرز تعليقاته.. «الناس هنا مش شبهنا»!!
وتابع عمر: «يومها قررت أن أخرج بهذا الفن للشارع كى يلتحم مع الجمهور بشكل حقيقي، فبعد انتهائى من عرض الأوبرا، جلست مع الفريق، وتحدثنا عن كيفية خروج هذا الفن للجمهور والشعب المصرى بالشوارع، كانت ولادة الفكرة بذهابنا لمركز ثقافى فى حى شبرا، ثم شاهدت بجوار هذا الحى «مقلب زبالة» أو «خرابة» بعزبة المرجوشي، وقررت أن انطلق بالعرض من هذه الخرابة، ذهبت للحصول على مقلب الزبالة الذى كان أقصى ما فيه يسمع أغانى مهرجانات، قررنا التفكير فى تهيئته كى تغنى به سوبرانو مقطوعات من أوبرا عالمية، ثم نذهب فى نفس اليوم ونقيم نفس الحفل بمتحف محمود مختار كى نعرض بين التماثيل، وحتى نكون قدمنا هذا الفن فى كل مكان ولكل قطاعات المجتمع على اختلافها وتنوعها، لكن للأسف تم رفض العرض بمقلب الزبالة لدواع أمنية وخوفا من التحرش، فتخلينا عن الفكرة مؤقتا لكننى لن أتنازل عنها، لأن العرض بهذا المكان هو خلق الحياة من الموت، فنحن نعيش حالة موات.. والفن «حياة».
لم يستسلم عمر لرفض الأمن استغلاله عزبة المرجوشى كى ينفذ بها مشروعه الفني، بل تعاون مع مؤسسة محطات، وهو كيان مستقل ساعده فى التعاون على تنفيذ فكرة «أوبرا البلكونة» بشكل لوجيستى، وجاءت الفكرة بعد حيرة المخرج وفريقه فى كيفية النزول إلى الجمهور بالشارع، دون التواجد فعليا به، ومن هنا جاءت فكرة «البلكونة».. والبحث عن شرفة مناسبة بالدور الأول.. فيقول «فكرنا فى التحايل على الأمر كى نقدم العمل فى الشارع دون النزول إليه ومن هنا كانت «البلكونة»، ناس بتخرج من البلكونة تحتسى الشاى بلبن وبقصمات وتجلس للاستماع معنا، وأذكر أنه فى إحدى المرات هددت واحدة من السكان بطلب الشرطة، وبعد أول أغنية جلست تنصت للغناء مع أحفادها، والمفاجأة أن الناس كانت «مبسوطة جدا» وردود الأفعال عادة ما تكون مؤثرة للغاية قال لى أحدهم «كتر خيركم انتوا احيتوا المكان تاني»، «ربنا يجبر بخاطرك»، وإحدى السيدات فى بورسعيد كانت تقف تستمع للحفل من وراء السيارة فى الشارع لأنها تخشى التقدم للأمام ظنا منها أنها حفلة مدفوعة الأجر.. وعندما طلبت منها التقدم والمشاركة سألت باستفسار.. «هو ايه ده؟ وبكام؟ ده ببلاش؟ وعندما علمت أنها أوبرا، طلبت منى الاستذان حتى تذهب لارتداء ملابس تليق بحضور حفل الأوبرا.. بالطبع رفضت وأكدت لها أن الحضور هنا مجانا دون ملابس رسمية»..!!
يحمل هذا المشروع فلسفة خاصة، فبما أنه قرر النزول للناس بالشوارع أصبح يخضع لقانون هذا الشارع، بمعنى آخر لا يطلب أصحاب الحفل تذاكر مقابل المشاهدة ولا يطلبون ملابس رسمية، بل حتى المطربة والعازفون يرتدون ملابس المنزل وكأن المطربة والعازفين أحد قاطنى هذه العمارات السكنية.. هكذا قرر الفريق أن يكون أكثر قربا وحميمية من الجمهور الذى يترك كل شيء منصتا ومتعجبا مما يرى.. فيواصل عمر قائلا.. «بالطبع نحن متعمدون الظهور بهذا الشكل فلا يمكن أن تخرج سوبرانو ترتدى ملابسا وكأنها تقف على مسرح دار الأوبرا، فحتى أكون منطقيا، يجب أن يكون المطرب والعازفون أكثر قربا وشبها بكل شخص مصرى يقف فى إحدى الشرفات المصرية الأصيلة والتى نختار معمارها بعناية حتى تناسب فلسفة العمل، فنحن نذهب للشرفات التى تبدو من معمارها أقرب للشرفات القديمة التى اعتادت جدتى الجلوس بها وتناول القهوة، ثم تخرج المطربة منها بملابس النوم وكأنها إمرأة عادية استيقظت من النوم كى تصبح على الجميع بغناء ودندنة قبل تناول الإفطار، فهناك من قال لنا «شكرا غيرت لى يومى وسأذهب إلى عملى بطاقة مختلفة»، وآخرين سألوا فى دهشة لماذا تقومون بذلك، وبلا مقابل «عشان نتبسط».. لذلك لم أهتم كثيرا بوضع موعد الحفل على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» لأننى لست معنيا بجمهور الفيس بوك بل ما يعنينى حقيقة هو رجل الشارع العادي، الشخص البسيط، المحروم من هذا الفن ومن هذه المتعة».
ويتابع: «فى كل مرة أقدم فنانا جديدا بخلاف المطربين أعضاء الفريق، عرضنا فى أماكن بسيطة، وشوارع عشوائية وأسواق وقصر مهجور، نذهب فى البداية ونبحث فى الشوارع لاختيار البلكونة المناسبة ولابد أن تكون فى الدور الأول لتحقيق مستوى مريح للرؤية، فى دمياط عرضنا بمنزل أمامه مقهى كانت حفلة كاملة بعد انتهائنا منها طلب أصحاب المقهى أن نعود مرة أخرى لأن الناس طلبت طلبات زيادة بسبب جلوسهم لسماع الحفل، وأحيانا كان يأتى البعض ومعه علب كشرى للاستماع والاستمتاع فى السوق بالمنصورة، وأذكر أن فى هذا اليوم كان المكان ممتلئا بتكاتك وسيارات ميكروباص وزحام شديد، وفور بدء الغناء الكل استمع فى صمت شديد وصمت شارع السوق وكأن شيئا لم يكن، وقتها كنا نعرض مقطعا من أوبرا كارمن بعد انتهائها سألنى أحد سائقى التكوتوك «هى الأغنية دى اسمها ايه؟؟ خرج من الشارع بعد ما كان يستمع لأغانى المهرجانات يبحث عن «أوبرا كارمن» على اليوتيوب بالموبايل كى يسمعها !!
ويضيف: فى الجولة الأولى كانت المشكلة فى المحافظات تغطية تكاليف الفنانين والإقامة، لكننا نحاول توفير هذا بقدر المستطاع، لذلك لا نستطيع تقديم هذه الحفلات بشكل دورى ومنتظم نظرا للتكلفة المادية، لكننا نسعى خلال الفترة المقبلة لإقامة عروض بالصعيد فى المنيا وأسيوط وبنى سويف، نقدم خلال كل حفل عشرة أغانى متنوعة منها أوبرا صرف بالعزف والغناء، ثم أعمال انجليزية وفرنسية كلاسيكية، ومن تراثنا المصرى مثل أغانى أنا قلبى دليلي، ومن حبى فيك يا جاري، وثلاث سلامات وغيرها الكثير، وكل هدفنا هو محاولة توصيل الفن لمستحقيه وتغيير الذوق العام للجمهور».
أمر الله سيدنا موسى أن يلقى عصاه كى تلقف ما يأفكون، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون، فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين، وألقى السحرة ساجدين، والإفك هو الفجر فى الكذب والنفاق والإدعاء، والفن والثقافة والتعليم عصا سيدنا موسى التى ستنقذ هذا الشعب من إفكه الشديد، وبالتالى كان من الأولى أن تخرج مبادرات فنية وثقافية من منابع قصور الثقافة، والوزارة ذاتها، لكن المثير للدهشة أن هذه الفكرة خرجت من رحم فرقة مستقلة لا تتلقى دعما من أى جهة حكومية أو أجنبية، ويعتمد فريقها فقط على التمويل الذاتى من أعضائه ويسعون لتحقيق هدف اسمى من الإنتاج لتحصيل مقابل مادي، وهو الإنتاج من أجل صناعة ثقافة حقيقية، وبدأ عمر المعتز بالله وأعضاء فريقه دون استذان، بتنفيذ كل ما سبق وأن ناشد به المثقفون فى اعتصام وزارة الثقافة بالشارع، ومازال يناشد به بعضهم حتى اليوم، فهذه المبادرة خطوة كبيرة وخطيرة فى مواجهة الجهل والتطرف الفكرى والديني، وبالتالى فهى تحتاج إلى دعم كل المؤسسات الثقافية المعنية كى يستطيع أصحاب هذا المشروع الإستمرار والسفر بكل شوارع القاهرة والمحافظات والميادين، ولا يكفى الدعم فقط بل يجب أن تشارك وتتعدد الجهات المعنية بالثقافة بنشر الفنون بين الناس.