السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«روزاليوسف» تقلب فى 12 يومًا من صفحات الوجع جميل شفيق رحلة رتبها القدر.. بدأت بضحكة .. وانتهت بدمعة

«روزاليوسف» تقلب فى 12 يومًا من صفحات الوجع جميل شفيق رحلة رتبها القدر.. بدأت بضحكة .. وانتهت بدمعة
«روزاليوسف» تقلب فى 12 يومًا من صفحات الوجع جميل شفيق رحلة رتبها القدر.. بدأت بضحكة .. وانتهت بدمعة




كتبت - سوزى شكرى


تأخرت فى كتابة شهادتى حول رحيل الفنان التشكيلى «جميل شفيق» لم أكن أعلم أنى سوف أتألم بمجرد كتابة اسمه، وحاولت كثيرا تخطى صعوبة وثقل الكلمات.. وهربت من مطاردة ذكريات المواقف التى دارت بينه وبين فنانين وفنانات ملتقى الأقصر الدولى للتصوير – الدورة التاسعة – ديسمبر2016، حيث كان الراحل «جميل شفيق» موجودًا على نفقته الخاصة فى نفس فندق الملتقى، ومعه كل من الفنان التشكيلى د. مصطفى الفقى، ود.حسن عبد الفتاح، والفنانة القديرة عطيات السيد، والفنان الكبير الدسوقى فهمى، والفنان التشكيلى د.إبراهيم الدسوقى، والفنان جورج البهجورى، هؤلاء الفنانين الكبار جميعا كانوا ضيوفًا على ملتقى الأقصر الدولى للتصوير- وساهموا بأدوار مهمة سنرصدها فى مقال آخر.
لم يكن رحيله بالبساطة التى تخيلها البعض، التى تبدأ وتنتهى بكلمات عزاء ومقالات نقدية عن أعماله الفنية ومشواره الفنى، أو تصارع البعض على «الفيس بوك» لوضع صورة لإثبات أنه من المقربين له.
الأمر بالنسبة لكل فنانين وفنانات ملتقى الأقصر الدولى للتصوير يختلف تماما، مؤلم أن تودع فنانًا بقدر وقيمة «جميل شفيق»، بعد أن منحنا القدر فرصة لا تتكرر فى العمر أن نلازمه طوال 12 يوما، جمعته معنا مواقف المرح والجدية والحوارات حول الفن وأحواله وأمور الحياة العامة، وذكرياته التى كان يبوح بها بدون حذف أو تجميل، وكأنه قرر أن يخبرنى أنا بالأخص بتجاربه وخبراته، لعلنا نتعلم منها، وعلى ما يبدو أن جميل شفيق هو الوحيد الذى كان يعلم أنه جاء الأقصر ليرحل!
■ رحيل يستدعى التأمل..
إنه رحيل يثير الدهشة والاستفهام.. أسئلة جدلية ليس لها إجابات هل نحن محظوظين ومختارين بالاسم أن يحملنا «جميل شفيق» آخر أيامه وجسده أمانة؟ ولماذا الأقصر؟ لماذا اختص القدر أن يرحل «جميل شفيق» بين أحضان أصدقائه؟ ولماذا هذه الصحبة بالتحديد؟ بعضهم من رفقاء مشواره الفنى وأصدقائه المقربين، والبعض الآخر من فنانى الملتقى وضيوفه الذين تعرفوا عليه لأول مرة عن قرب.
بالنسبة لى كصحفية فقد رافقته فى أغلب معارضه، واعتز أننى تلميذته، التى نصحها كثيرا أن تترك العمل الصحفى، وتتفرغ للفن والرسم، وأن الفن أهم من العمل الصحفى للفنان، وهذه النصيحة لأنه تأخر فى إعداد أول معارضه بسبب عمله الصحفى، فنبهنى كثيرا، حتى لا أقع أسيرة الفخ الصحفى.
■ شهادتى حول رحيل جميل شفيق..
روايات كثيرة كتبت عن رحيله.. ومع الأسف «خاطئة»، سأرويها كما حدثت من واقع شهادتى الحية، لست وحدى من يحمل فى ذاكراته مواقف بينه وبين «جميل شفيق»، ولكنى سأكتفى بسرد بعض اللقطات المهمة من أيامه معنا فى الأقصر.
■ يا عم جميل يا جميل
«يا عم جميل يا جميل»... كل فنانى الملتقى دون استثناء اعتادوا أن ينادوه بهذا الجملة التى تنم عن المحبة، وبابتسامة صافية تشع ضوء وبهجة يرد عليهم جميل شفيق: انتوا الأجمل والله.
ويجلس الجميل مع أصدقائه وصحبة عشرة العمر على فترات متقطعة من اليوم، ويفضل أحيانا الذهاب إلى مقهى بجوار الفندق، سعادته اليومية مع الصحبة يحكى ويضحك ويتذكر أمور فى حياته خصوصا فترة الستينيات، ثم يتركهم ليدخل غرفته ويجلس ليرسم، عشقه للفن ليس كأى فنان، كان يعانى من بعض التعب ودور البرد واضح على ملامحه منذ حضر إلى الأقصر.
■ خفة دم عمل جميل
وفى أحد الأيام أثناء جولتى على فنانين وفنانات ملتقى الأقصر الدولى بصفتى الناقد المصاحب للدورة التاسعة، مررت على غرفته، ابتسم جميل شفيق وكعادته صاحب لقطة وخفة دم.. عذب الكلام متواضع، ودار بينى وبينه هذا الحوار:
«شفيق»: بتعمل إيه يا سوزى؟
«أنا»: «بشوف الفنانين ولوحاتهم يا عم جميل يا جميل، وبكتب أفكارهم علشان اكتب عنهم فى الكتالوج».
«عم جميل»: «ضحك..  كويس يا سوزى، بس أوعى تعملى فيها أبلة الناظرة، وسيبى الفنانين يرسموا براحتهم، انا فاكر مدرس الرسم فى المدرسة مرة صلح لى فى رسمتى، وحط حاجات معجبتنيش، وبعد ما أخذت الدرجة مسحت كل اللى هو عمله».
وبعد الضحكة الرايقة من عم جميل الجميل، قالى: «طيب هاجى معاكى أشوف الفنانين بيعملوا أيه، أصل مبقتش أقدر أروح معارض زى زمان، والملتقى فرصة كبيرة أشوف الفنانين والشباب بيعملوا إيه».
■ فرشته إحدى أصابعه
لم يترك فرشته من يده وكأنها ترافقه أينما ذهب، وأثناء جولتى معه قالى جملة تبدو عادية، وقتها لم أفكر لماذا اعتدنا للتعبير عن شدة المحبة أن نستخدم كلمة الموت: « تعرفى أنا بموت فى النيل والبحر.. الاثنان هتلاقيهم فى لوحاتى كثير، مش عارف ليه الشباب مش بيحبوا يرسموا الطبيعة، ابقى اكتبى لهم فى الجرنال عن الطبيعة، كلها أسرار وحكايات، وأن الفن الحقيقى مش إنه يتبع مذاهب الفن، الفن الحقيقى أن يكون فنانًا صادقًا مع نفسه».
■ استوقفته قطة
وأكملنا السير إلى أن وصلنا إلى الغرفة المقابلة وهى للفنانات والفنانين والفنانات، كان بها، «هالة الشافعى – جيهان فايز – خالد بكاى( المغرب) –جورج البهجورى – (كينا) – د.سيف الإسلام صقر، ولحق بنا فى الطريق د. الحسينى على، والفنان الأردنى محمد الجالوس».
ولمح «شفيق» الفنانة التشكيلية هالة الشافعي، تداعب قطة صغيرة كانت تلازمها أمام غرفتها وتجلس بجانبها أثناء الرسم وتعتنى بها وتأتى لها بالأكل خصيصا، فلمعت عين «شفيق» والتقط أنفاسه بصعوبة والتفت إلى وقال: «جدعة قوى هالة دى، انا كمان عندى قطط فى شاليه الساحل، وبهتم بيهم واتعودت على وجودهم، بس مش عارف بقى هما عاملين إيه دلوقتى، التقطنا صورة جماعية عنوانها ضحكة جميل.
■ قائد الإنسانيات
وكان من ضمن برنامج الملتقى القيام بجولات فى الأقصر فتوجهنا ذات ليلة جميعًا إلى مقهى «أم كلثوم» وجلس جميل شفيق قائد الإنسانيات، جميل الروح شفاف القلب وتحاور مع الفنانين والفنانات، حين يتحدث الكل ينصت، وحين كان أحد الزملاء يختص «شفيق» بسرد حكاية يركز ويهتم ولا يقاطع فى الحوار، يجيد فن الانصات وفن الالقاء وفن الحكى والسرد كما يجيد التحاور مع الطبيعة، واستمر «جميل شفيق» معنا يضىء يومنا بلقطة وحكاية ومعلومة وملحوظة يتابع الفنانين من بعيد ومن قريب، ويشاهد أعمالهم كلما استطاع، ويبتسم ويمنح التفاؤل للكل حتى ولو لم ينطق بكلمة.
■ اعتكاف
مضى أسبوع ونحن معه، إلى أن علمنا أنه مريض وموجود فى غرفته وبجواره صحبة الأصدقاء، نعم هما صحبة اختارها له القدر ليكونوا بجانبه حتى آخر لحظة فى عمره وهم، «د.مصطفى الفقى، د.إبراهيم غزالة، د.حسن عبدالفتاح، د.إبراهيم الدسوقى، الفنان الدسوقى فهمى، هؤلاء لم يتركوه.. طلبوا له طبيبا، أخبرهم أنهم يعانون من التهاب حاد فى الشعب الهوائية.
إلى أن اختفى «شفيق» عن أنظارنا وظل فى غرفته برعاية واهتمام الصحبة المختارة، وبالأخص د.مصطفى الفقى الذى كان قلق عليه قبل وفاته بأيام، وطلبوا منه الصحبة أن يغادر الاقصر لكنه رفض وتمرد كعادته، رغم مرضه وآلمه.
■ الليلة الأخيرة
الليلة الأخيرة فى حياة «جميل شفيق».. أكاد أجزم أنها كانت بترتيب قدرى يفوق توقعاتنا، كنت أنا وبعض الفنانين موجودين فى «لوبى» الفندق كما تعودنا، وجاء إلينا د. إبراهيم الدسوقى وسألنا: ها تناموا؟
أجبته: لاء مش دلوقتى.
قالنا: طيب ما تيجيوا معايا نزو جميل شفيق.
لم نتردد لحظة، توجهت انا وفنانى الملتقى، «هالة الشافعى، هند الفلافى، جيهان فايز، مروة عزت، د. أحمد سليم، د.إبراهيم دسوقى».
وما إن وصلنا إلى الغرفة حتى وجدنا باب غرفته مفتوح والأضواء خافتة، والحرارة تخرج منها بسبب الدفاية، وجميل شفيق على سريره رافعًا رأسه إلى أعلى، صعب تحديد هل هو يقظ أم شارد؟ ربما يشغله شيء، ويضع بجانب رأسه على المخدة «راديو موديل قديم» تشدو منه كوكب الشرق» أم كلثوم» بأغنية «عودت عينى على رؤياك».
الغرفة غير مرتبة الأكل موجود بجانبه على السرير، وعلى كراسى الغرفة، وبقايا الألوان على طاولة، ولوحة رسم فيها «شفيق» رجلين يلعبان لعبة «التحطيب» وأرضية صفراء ولم تنته بعد، واللوحة الأخرى فارغة لم يرسمها، وعلى الأرض ثلاث قطع من الأخشاب مرسوم عليها وجوه المرأة، التى تتشابه مع «وجوه الفيوم»، وسبق أن قال عنها: «إن المرأة فى لوحاتى المرسومة أو الخشبية هى حكاية الفن كله».
هذه القطع الخشبية كان قد ذهب «شفيق» إلى وسط المدينة فى الأقصر وأعدها لتتطابق مع أخشاب طرح البحر التى صنع منها إبداعاته.
وقام جميل واستقبلنا بابتسامته الجميلة: «أهلا أهلا متشكر ياجماعة على الزيارة».
وتقدمنا منه: «يا عم جميل يا جميل قوم وحشتنا»، واقتربت منه الفنانة د.جيهان فايز: «عم جميل ما شاء الله وشك منور أن شاء الله هتبقى كويس وتقوم لنا بالسلامة».
واقترح عليه الفنان إبراهيم الدسوقى أن يأكل لأننا وجدنا الأكل كما هو مغلف، لكن جميل شفيق قال: مش عارف شبعان ليه.
لم تستغرق زيارتنا له ربع ساعة وقبل أن نغادر غرفته تقدمنا منه واحد تلو الآخر وسلمنا عليه، ولا أعرف لماذا قبلنا وكأننا لن نراه مرة أخرى، وطلبت منه أن يغادر الأقصر ويعود إلى مصر مثلما طلب منه من قبلى أصدقائى المقربين، وقلت له: «يا عم جميل إنت تعبان سافر.. إحنا قلقانين عليك، رد على: طيب بكرة هخف وأسافر بس كنت عايز أكمل اللوحة»!
■ رحيله
تركناه على وعد منه أن يغادر الأقصر، وفى الغد لم يخلف «جميل شفيق» وعده لنا.. وتركنا ورحل.. لكن إلى السماء.. حالة من الصمت أصابتنا، نعم الصمت كان عزاؤنا، افترقت الصحبة وكل منا ذهب إلى غرفته، إلى أن بدأ الصمت يحرك فينا كلماته ولقطات وحكاياته، رحل الجميل وترك جسده أمانة بين صحبة الخير الذين حدد له القدر أن يرافقوه إلى النهاية.
وبدأت إجراءات سريعة طلب د.إبراهيم غزالة «قوميسرا» الدورة وأحد رفقاء الصحبة الطيب وأبلغ النيابة برحيله، وانضم إلينا الفنان التشكيلى علاء عوض، وهو فنان مقيم فى الأقصر، وكان له دور كبير فى إنهاء الإجراءات والأوراق الخاصة بنقل جسد «جميل شفيق» من الفندق إلى المستشفى، واحضر عربية اسعاف لنقله، وعلمت منه أن أوراق تصريح الدفن والمستشفى كانت تمر بسهولة، ولم يجد أى عقبات ولم يدفع أحد أى مبالغ، حتى إن كنسية العذراء بالأقصر أرسلت عربة موتى مخصصة لاصطحاب جميل شفيق إلى القاهرة.
وجاء إلى الأقصر، شقيقه وزوجته ليصطحبا جسده إلى القاهرة.
وبعد مغادرة جميل شفيق ونقلة إلى المستشفى، دخل دكتور مصطفى الفقى وهو متألم آلم يصعب وصفه يجمع كل متعلقات «جميل شفيق» الخاصة ومعه د.إبراهيم الدسوقى، ونحن جميعا ما زال الصمت يخيم على ملامحنا.
■ تأبينه
«قبل الموعد اليومى للندوات المصاحبة بحثت فى جهازى (اللاب توب) على لوحات وأعمال جميل شفيق فوجدتها، كما وجدت فيلمًا مكونًا من جزءين عنه من إنتاج وزارة الثقافة، وهذه مفارقة قدرية أخرى، انى كصحفية معى جهازين، جهاز صغير استخدمه فى انتقالاتى وجهاز آخر أكبر منه وثقيل، لكنى قبل حضورى إلى الأقصر بساعات وفى آخر لحظات قررت أن يكون معى الجهاز الأكبر ربما احتاج شيئًا من ملفاتى القديمة، وبالفعل الجهاز الأكبر عليه ملفات الأعمال الكاملة لجميل شفيق».
وتوجهنا كل فنانى وفنانات الملتقى لمكان المخصص للقاء الندوات وأقمنا تأبين للغائب الحاضر «جميل شفيق»، بحضور د. نيفين الكيلانى رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية، ود. إبراهيم غزالة والفنان القدير أحمد شيحا وكل ضيوف الملتقى من صحبة الخير، وقفنا جميعًا حدادًا على روحة الطاهرة وتم عرض فيلم لأعماله.
وانتهى اللقاء بمقولة د.إبراهيم غزالة: «جميل شفيق شاع بينا طاقة إيجابية وتمرد على مرضه من أجل الفن ورفض مغادرة الأقصر قبل الانتهاء من لوحاته وهذه رسالة تركها لنا لنتعلم منها أن الابداع الفنى لا يعوقه المرض».
استعاد جميع الفنانين الفنانات المصريين والعرب والأجانب طاقتهم وذكرياتهم مع جميل شفيق، وعاد كل فنان إلى غرفته واكتملت الأعمال، وافتحت معرض الملتقى وأعمال جميل شفيق فى مقدمة المعرض وبجانبها أعمال رفقائه وصحبته د.مصطفى الفقى، د.حسن عبد الفتاح وأيضا أعمال جورج البهجورى والذى كان قد غادر الفندق قبل رحيل جميل شفيق بأيام.
■ شجرة جميل شفيق
وفى صباح اليوم التالى الثلاثاء 27 ديسمبر 2016 قامت د.نيفين الكيلانى رئيس قطاع صندوق التنمية الثقافية السابق، ومعها المسئولين بالفندق، بغرس شجرتين، الأولى للراحل الفنان جميل شفيق، وشجرة أخرى كتذكار للقاء الفنانين المشاركين فى ملتقى الأقصر الدولى للتصوير، دورته التاسعة، وكان بصحبتها د.خالد سرور رئيس قطاع الفنون التشكيلية، والفنان الدكتور إبراهيم غزالة «قوميسير» عام الملتقي، وأعضاء اللجنة العليا لملتقى الأقصر الدولى للتصوير الفنان التشكيلية عقيلة رياض، والفنان أحمد شيحا، الفنان دكتور أيمن السمري، والفنانون المشاركون فى الدورة التاسعة، ومجموعة من الصحفيين والصحفيات، وقد كتب اللوحات التذكارية الفنان والكاتب الكبير محمد بغدادي، وأخذ الجميع اللقطات والصور مع «شجرة جميل شفيق».
عاد جميل شفيق إلى الطبيعة التى يعشقها، ووقفنا نحن أمام شجرة جميل شفيق التى سوف تثمر وتنمو بالفن، مثلما أعطته الطبيعة أسرارها طول مشواره.. أصبح اليوم جزءًا من عناصرها الحية، ونحن الصحبة من الفنانين والفنانات والذين كنا رفقاء آخر أيامه، فجميعًا نقول له: شكرا أيها الجميل شفيق أنك منحتنا أغلى أيام حياتك».