الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

سحر الحضارة المصرية على مسارح لندن

سحر الحضارة المصرية على مسارح لندن
سحر الحضارة المصرية على مسارح لندن




باسم توفيق  يكتب

أحينا يقلقك كثيرا اختفاء صورة الوطن عن ساحة الجدل العالمى.. أحياناً أيضا قد تجد مرارة ما حينما تجلس مع مخرج عالمى أو شاعر كبير من الغرب ويسألك عن مصر مع بعض التلميح أن تختفى وتتلاشى .. هذه الإيماءات قد تترك لديك شعورا بالخيبة أحيانا لكن فى لحظات ومع كثرة الدأب على الغوص فى المنتج الفكرى الغربى تجد أن مصر لديها حضور سحرى دائم وقوى لن يختفى حتى نهاية التاريخ والسبب فى ذلك ليس العناوين الحماسية والشعارات والتباهى بحضارة ضاربة آلاف السنين فى عمق التاريخ لكن السبب الحقيقى فى ذلك هو أن مصر بدون شعارات هى معجم يحتوى على ملايين الشفرات التى تستطيع أن تنتقل منها بسهولة للخامة الرئيسية للثقافة العالمية فى العصر الحديث وإن كانت هذه الثقافة مفرطة فى الحداثة أو مغرقة فى التجريب أضف إلى ذلك أن مصر كصالة رئيسية فى قصر الحضارة تستطيع أن تنفذ منها لأى غرفة أو بهو .. دون الإفراط فى مقدمة قد يعتبرها البعض من قبيل الإطراء تشاهد لندن هذه الأيام عملا مسرحيا ضخما وجزلاً من الناحية الثقافية والفكرية والمسرحية أيضا مسرحية متعقبى أوكسرينخيوس والتى كتبها أمير الشعر الانجليزى الحالى تونى هاريسون منذ أكثر من ثلاثين عاما وعُرضت فى أواخر الثمانينيات فى ظروف خاصة على مسرح أثينا لكنها لم تلق رواجا لإصرار هاريسون وقتها أن تعرض بشكل معين يشبه عروض الدراما القديمة لكن بعد بداية عرضها منذ أكثر من أسبوع فى ثوبها الجديد على مسرح فانبرا بلندن حيث أخرجها هذه المرة المخرج الرائع جيمى والترز أصبحت أحد أهم العروض المسرحية ازدحاما فى لندن.
تدور أحداث المسرحية فى عام 1907 فى صعيد مصر وبالتحديد فى أوكسيرينخوس وهو الاسم القديم للبهنسا حيث اثنين من أهم علماء الآثار وهما برنارد جارونفيل وآرثر هانت للتنقيب عن البردى حيث اكتشفا أكبر مستودع فى التاريخ لوثائق البردى فى البهنسا حيث كان المصرين على مدار عصور متعاقبة يدفون مخلفاتهم من البردى فى هذا المكان فخرجت منها على أيديهم 60% من أهم وثائق البردى فى العالم بين نصوص أدبية ووثائق حكومية وعقود خاصة ورسائل، وتدور أحداث المسرحية حول أحد أهم النصوص المكتشفة وهى ثان مسرحية ساتورية تخرج شبه كاملة للوجود واسمها باليونانية – ايخنيوتاى – أى المتعقبون أو المراقبون من فتيان الغاب – وهى مسرحية يونانية كتبها سوفوكليس وتعتبر ثانى مسرحية تكتشف بعد مسرحية السايكلوب ليوربيديس، ومن ثم يحول هاريسون كاتب النص هذا الأكتشاف الكبير لموضوع مسرحيته حيث يتحول جارونفيل هذا الآثرى الحقيقى إلى الإله أبوللو ويتحول زميلة هانت لسيلينيوس هو أكبر فتيان الغاب – الساتير – ومعلم ديونيسوس إله الخمر والدراما عند الإغريق حيث تدور المسرحية على قصة الآله مركورى - هرمز – رسول الآلهة وإله التجارة عند الإغريق فإن الكاتب أيضا يستحضر أحد أهم صفاته القديمة وهى صفته كإله للأخصاب والفحولة قبل ظهور عبادة ديونيسوس ويظهر هذا عمق الدراسة الكلاسيكية لدى هاريسون حيث كانت الكلاسيكيات هى دراسته الرئيسية فى جامعة ليدز، وهكذا وبعد أن تحول هانت وجارونفيل لشخصيات أسطورية أغريقية تسير أحداث المسرحية فى إطار النص الذى كتبه سوفوكليس حول أسطورة سرقة هرمز وهو طفل رضيع لقطعان الماشية الخاصة بأخيه أبولو وإخفائها وهو مازال فى المهد وحيث تعقب فتيان الغاب الأثر ليكتشفوا أين أخفاها هرمز وتتمخض عن ذلك أحداث كثيرة ويعرض هاريسون وجهة نظره فى الفن الراقى والفن المتدنى وعدم مقدرة ذوات الخلفية الثقافية المحدودة على إنتاج إبداع راقى متمثلا فى اختراع الساتير أو فتيان الغاب إله اللير أو القيثارة.
الحقيقة أنه بالإضافة لموضوع المسرحية الجزل والشيق فى نفس الوقت فإن رمزية الحدث الدرامى وما وراء التاريخ فى المسرحية يعيد للأذهان حضور مصر القوى والسحرى فى كل متون الفن الراقى فنحن نعرف أن لولا برديات أوكسرينيخوس الموزعة بين أكبر جامعات العالم وجمعية المصريات التى أسسها هانت وجارونفيل أنفسهم فى لندن لكان الآن تاريخ العالم مبتور بشكل كبير والكثير من نصوص الفكر والأدب فمعظم مسرحيات يوربيديس المكتشفة كاملة خرجت من أوكسرينيخوس وأرشيفات وثائقية شديدة الأهمية بكل اللغات التى تحدثها اللسان المصرى قبل دخول العرب والمؤسف أننا فرطنا بشيء من التهاون فى هذه البرديات ومازال باحثونا يضطرون للطلب من الجامعات الأجنبية السماح لهم بنسخ منها وخصوصا التى لم يتم تحقيقها بعد وخصوصا جامعة ميتشيجان التى أستحوذت على مجموعة كبيرة من برديات أوكسرينيخوس وبينها وبالطبع مجموعات لاتقدر بثمن ومعظمها مازالت تشكل ثروة اكتشافية لأنها لم تنشر بعد.
أيضا علينا أن نؤكد أن أهم مكتشفى الآثار مثل جارونفيل وهانت لم يكن يصلو لهذه الشهرة والمجد بغير اكتشافاتهم فى مصر والتى كانت ومازالت تضج بها قاعات الدرس والبحث فى أكبر جامعات العالم وليس جارونفيل وهانت فقط بل هناك مئات الأسماء الذى أضافت لهم الأرض والأخيلة المصرية والاكتشافات عبقرية فوق عبرقيتهم وثقلا وأصالة تشع من فنونهم أمثال كفافيس وسيرتاكس ولورانس داريل والذى أضافت لهم الإسكندرية فقط بكل عوالمها الملغزة وعصورها جواز مرور للعالمية بل والمتن المباشر لتحليل الحضارات عن طريق السرد والنظم أى بين الرواية والشعر.
مسرحية متعقبى أوكسرينيخوس تُعرض فوق خشبة مسرح فانبرا بالعاصمة البريطانية لندن قامت بعمل السينوغرافيا للعرض آمى لورانس ويقوم ببطولتها ريتشارد جلافيز وتوم بيربك وأخرجها للمسرح المخرج البديع جيمى والترز.