الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

حكايات مدينة تحت القصف (1-2) ثقوب سوداء فى ثوب حلب

حكايات مدينة تحت القصف (1-2) ثقوب سوداء فى ثوب حلب
حكايات مدينة تحت القصف (1-2) ثقوب سوداء فى ثوب حلب




سوريا - إبراهيم جاد

قبل أن تهبط طائرة الخطوط الجوية السورية فى مطار دمشق فوجئنا بإظلام تام للطائرة؛ لم تكن الاجابة حاضرة فى هذا التوقيت ازاء هذا التصرف؛ هل كان هناك؟ لكن الاجابة كانت أسرع مما اتصور «اننا نخشى ان تصبح الطائرة هدفا سهلا للجماعات المسلحة؛ وهى مضاءة وسط سماء سوداء». كان ذلك مؤشرا واضحا على خطورة الرحلة والزيارة
يبدو مطار دمشق خاويا الا من حركة محدودة لمواطنين تدثروا بأغطية هربا من الانخفاض المستمر فى درجات الحرارة؛ ليس هناك صخب ولا ضجيج ولا حتى سماع صوت المذيع الداخلى ليعلن عن قدوم رحلات جديدة. المطار يبدو مهجورا إلا من هؤلاء الذين قرروا أن يلتحفوا بالاغطية الكثيرة؛ استوقفنى حجم العيون التى تراقب كل الوجوه وتتفحصها؛ وتقترب كى تسمع اللهجة واللغة؛ هل من اهل الشام ام ان الملامح عربية او اجنبية؛ كشف دقيق بعيونهم؛ كل نفس مرصود؛ كل حركة مراقبة؛ هل اصبحت مدينة دمشق مدينة من المخبرين بفعل الحرب الدائرة منذ سنوات؟ وان هذه مهمة البعض منهم كى يحافظ على ما تبقى من العاصمة الصامدة امام هذه الحرب؟
لسنا الا فى مهمة عمل وها هى الاوراق» هكذا أخبرت الموظف المسئول عن الأمن. يبادرنى بأنه لم يصله أى أوراق بعد من حكومته بشأن مهمة العمل او الزيارة؛ كانت وزارة الاعلام السورية قد تقاعست عن متابعة خطاب السفارة السورية بالقاهرة بموعد الوصول او انهاء اجراءات السفر؛ ولولا اتصال بالسفارة المصرية والقائم بالاعمال الدكتور محمد ثروت سليم؛ ووصول مسئول العلاقات العامة بالسفارة؛ لما خرجت من مطار دمشق؛ كان الامر فى غاية الصعوبة.

الحياة فى دمشق
دمشق لم تعد كما كانت؛ الناس تبدو محبطة؛ خائفة من مصير ما؛ خرائطهم تنتهك كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة؛ فى ريف حمص وريف دمشق وحلب قبل تحريرها وادلب وتدمر؛ كل يوم تفقد فيه سوريا شبرا لكنها تسترجعه بدماء غالية؛ تدافع عما تبقى من كرامتها وعروبتها وارضها وعرضها؛ بمزيد من الاصرار والصبر أمام تنظيم تتارى متعدد كثير الاسماء فهو داعش واحيانا جبهة النصرة او جيش فتح وغيرها.
أطراف دمشق مجروحة؛ ليس هناك بناية الا وقد اصابها الرصاص او قذيفة او مدفع هاون؛ لكنها تحاول ان تبقى حية؛ نابضة امام كل هذه الطلقات؛ تتلقى الرصاص وتنهض؛ على الطريق نزيف كثير لحضارة دنسها البعض ليس الا لغرض يتعلق بمصالحهم الشخصية او انتقام من الدولة السورية؛ حتى ان بعضهم ضخ مليارات الدولارات لتمويل التنظيمات الارهابية المسلحة من اجل اسقاط حكم بشار الاسد؛ مع غطاء اعلامى من قنوات مسموعة ومؤثرة؛ يصبح الضحية هو الجلاد؛ ومن مول الارهاب بالمال والسلاح «دعاة حرية».

الليرة السورية
امام حرب استخدمت فيها الاسلحة الثقيلة لسنوات؛ ونزوح البعض خارج سوريا؛ انهار الاقتصاد السورى وبالتالى انهارت معه العملة المحلية السورية «الليرة» امام الدولار؛ ورسميا الدولار بـ500 ليرة؛ ويصل أحيانا فى السوق السوداء إلى 510 ليرات أو 514.
أثر هذا على معاناة سكان دمشق وحلب فى التعامل اليومى لشراء السلع او توفرها؛ كل شىء اصبح غالياً؛ بعد ان كانت سوريا تفخر بأنها الدولة الوحيدة التى تعتمد على الاكتفاء الذاتى؛ يخبرنا أبو محمد وهو يعمل سائق واب لابنين «قبل الحرب كان الدولار بـ50 ليرة؛ كنا نشترى كل الاشياء والراتب كان كافيا او يفيض؛ ابنى كانت مصاريفه قبل ارتفاع الدولار 5000 ليرة سنويا؛ الآن وصلت إلى 25000 ليرة؛ كل شىء فى ارتفاع جنونى وليس امامنا إلا الاستمرار على امل ان تتحسن الظروف فى المستقبل؛ لكن ارتفاع الاسعار يصعب علينا الأمور كثيرا».

أزمة نهر بردى
لكن ارتفاع الاسعار لا يقارن على الاطلاق بأزمة يعيشها اهل دمشق وهى عدم توفر مياه صالحة للشرب او الاستحمام؛ ففى الوقت الذى كانت فيه الدولة السورية تحتفل بتحرير حلب؛ كان هناك مسلحون يسيطرون على نهر بردى وهو الذى يمد دمشق العاصمة بالمياه؛ وينبع من بحيرة بردى فى جنوب الزيدانى على سلسلة الجبال السورية شمال غرب دمشق؛ وهو النهر الذى قال عنه المؤرخ ابن عساكر ان نهر بردى كان يعرف قديما باسم نهر باراديوس او نهر الفردوس؛ وذكر نهر بردى فى الكتاب المقدس «التوراة»؛ وهو ايضا النهر الذى غنت من اجله فيروز.
انتصار الجيش السورى فى بردى قوبل بانتقام من المسلحين بسيطرتهم على نبع بردى؛ فأصبح هناك نقص فى المياه داخل العاصمة بشكل لافت؛ حتى أن محلات كثيرة كانت تعلق لافتة «لا يوجد ماء»؛ وتحولت اماكن فى دمشق منها كفر سوسة لساحة انتظار لمياه توزعها الدولة على المواطنين بواقع 6 زجاجات مياه بـ600 ليرة؛ الطوابير تمتد والزحمة لا تتوقف؛ ينتج عنها مشاحنات ومشاجرات فى اسبقية الوصول للحصول على المياه؛ تقول الدولة فى صحافتها وعبر مسئولين إن الأزمة فى طريقها للحل وان هناك تفاوضا مع المسلحين المسيطرين؛ لكن الايام تمر دون حل للأزمة؛ وحسب مسئول عسكرى فى الجيش «الدولة تخشى ان تضرب منبع النهر خوفا على حياة المدنيين الموجودين هناك». أزمة المياه تكاد تخنق دمشق؛ واخذت بعدا طبيا؛ بعد استقبال مستشفى ابن سينا لحالات تسمم ناتجة عن المياه؛ بعد ان القى المسلحون بمواد مسممة فى النهر.
ومع أزمة المياه وعدم توفرها؛ كان لافتا ان تعتمد العاصمة على المولد الكهربائى الضخم خاصة فى الأسواق والمحلات؛ بعد انقطاع الكهرباء من ساعتين لأربع ساعات حتى وصل إلى 15 ساعة يوميا فى مناطق بدمشق بشكل يومى.

رتب للبيع فى الأسواق
تستوقفنى لافتة ضخمة على طريق الاوتوستراد فى دمشق «التحقوا بالقوات المسلحة.. جيشنا يعنى كلنا. مجموعة سيدات سوريا الخير» اللافتة عبارة عن صورة لسيدة تمسك بندقية؛ وكأنها دعوة للتجنيد. يقول لى عماد مسئول حكومى بارز «جيشنا لا يزال محافظا على قوامه الاساسى رغم الدعوات المنتشرة للالتحاق به؛ هذه قضيتنا ان يظل كل أبناء الشعب السورى هم جنود»؛ اقاطعه «لكن هل هذا يعنى ان الجميع ممثل الآن من كل الطوائف سنة وشيعة وغيرهم»؟ يبادرنى بحسم قاطع «ان الجيش السورى ليس طائفيا فهو يضم الكل لا فرق بين سنة وشيعة ومسيحى وكردى» لكن هذا ينفى شهادة والدة الشاب السورى السنى التى تقول انها تحاول ان تدخر 500 دولار كى تعطيها لابنها ليسافر لتركيا هربا من الخدمة الاجبارية فى الجيش؛ فالله وحده يعلم متى سيظل ابنى تحت امرة الجيش او متى ستطول الحرب.
دهشتى كانت وانا اتجول فى محلات داخل السوق فى قلب دمشق؛ اكتشفت ان ملابس الجيش السورى واحذيته تباع فى المحلات؛ وكذلك الرتب الخاصة بالجيش؛ يمكن ان تحصل على رتبة متقدمة بجاكت بـ15 ألف ليرة. وهو امر اشبه بظاهرة حين تجد ان بعض ممن يحرسون الوزارات والهيئات الحكومية او فى الأكمنة عمرهم تجاوز الخمسين؛ غير مدربين؛ فقط رجل بسيط ببندقية.

آثار القذائف فى السفارة المصرية
قبل ثلاث سنوات؛ شهد محيط السفارة المصرية بدمشق تفجيرا انتحاريا ضخما نتج عنه تأثر فى البناية الخاصة بالسفارة المصرية والتى لا تزال آثاره شاهدة حتى الآن على العمليات الارهابية فى دمشق؛ والتى لا تتوقف.

فى الطريق إلى حلب
440 كيلومتراً هى المسافة بين حلب ودمشق؛ وهو الطريق الدولى الذى حرره الجيش السورى من قبضة التنظيمات المسلحة والارهابية؛ كطريق بديل للطريق الاساسى والذى يبلغ تقريب 360 كيلومتراً؛ لم يكن الطريق إلى حلب سهلا؛ نحصى اللافتات واسماءها منذ الخروج من دمشق متجهين إلى حلب عبر هذا الطريق؛ وفى الذهن تتردد اغنية صباح فخرى «يا رايحين لـ حلب حبى معاكم راح
يا محملين العنب تحت العنب تفاح
كل مين وليفه معو وأنا وليفى راح
يا ربى نسمة هوى ترد الولف ليا
يا رايحين عصفد صفّولى نيتكم
وثلثين عمرى انقضى فى هوى بنيتكم
وحلفتكم بالنبى ومنين ميّتكم
وميّتنا عين العذرى شرب النصراوية
عالروزانا عالروزانا كل الهنا فيها
شو عملت الروزانا الله يجازيها.
لم يكن الطريق إلى حلب سهلا؛ كان الامر اشبه بمهمة انتحارية؛ خاصة أن زيارتنا تأتى بعد ايام على تحرير ما تبقى من حلب وطرد الجماعات الإرهابية المسلحة؛ ليس هناك تأمين شخصى؛ اكثر من 50 كميناً ونقطة تفتيش على الطريق؛ نتوقف فى كل نقطة وتبدأ عملية تفتيش بفحص الاوراق وجوازات السفر وطبيعة المهمة؛ يبتسم الضابط حين يعلم ان هناك مصريين يرغبون فى زيارة حلب؛ يطلب منا نقل الصورة كاملة للاهل فى مصر؛ أبتسم وأقول له «جئنا من اجل هذا السبب».
كلما قطعنا كيلومترات؛ زاد الاشتياق إلى حلب؛ لا تتوقف الاسئلة ولا يهدأ الخيال عن التفكير فى كيف كانت وكيف اصبحت حلب؛ تمر السيارة بسرعة تتجاوز الـ 120 كيلو متراً؛ تخترق الطريق. مدن وقرى قبل حلب نمر عليها؛ حمص وريف حمص، المشرفة، السلمية.

حديقة الشهداء
الآن 40 كيلومتراً قبل دخول حلب. على جانبى الطريق اثار لبنايات سقطت جراء القصف المتبادل؛ فى الافق البعيد تطل ادخنة سوداء قبل الدخول لقلب حلب؛ اسأل السائق هل حصل ضرب امس؟ ربما يكون ذلك بفعل القصف المستمر؛ فهناك تنظيمات لم تلتزم بوقف اطلاق النار؛ رغم تحرير حلب.
فى داخل دمشق اتوقف امام حديقة عامة؛ مقسمة لجزءين؛ يتخللها طريق؛ لكنها ليست حديقة بالمعنى الدارج وانما هى «قرافة»؛ فلم يجد اهالى حلب امام القصف المستمر وارتفاع اعداد الشهداء؛ وعدم وجود مدافن كافية لدفن الجثث؛ الا ان يلجأوا إلى الحديقة العامة؛ «هنا يرقد الشهيد عبد الرازق فتال» كل شهيد امرأة او رجل او طفل؛ يحرص اهل حلب على زيارتهم وقراءة الفاتحة فى ساحة الشهداء. وكأن قطاعاً كبيراً من شرق حلب «ميدان مفتوح للقتال»؛ تنتظر أرض المدينة ان تضم شهداء جدداً.