السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

قصور صقلية: حكايات عربية فى جزيرة المافيا

قصور صقلية: حكايات عربية فى جزيرة المافيا
قصور صقلية: حكايات عربية فى جزيرة المافيا




كتب - محمد الناصر أبوزيد

«صقلية» تاريخ من الثقافة والفن والدم، فسواء كان الاسم «المافيا» من أصل عربى أو من أصل إيطالى، وسواء كانت فى نشأتها، منظمة وطنية لمقاومة المحتل الفرنسى للجزيرة، أو كانت تنظيما إجراميا من البداية، فالثابت والمستقر علميا، أن المافيا نشأت فى صقلية، بعد انتهاء الحكم العربى بقرنين، قبلها بنى العرب وشيدوا حضارة، لا تزال ماثلة فى معمارها وتأثيراتها الانثربوليجية إلى الآن.. تأثير العرب الثقافى فى هذه الجزيرة لا يمكن أن يتجاهله أى راصد لتاريخ أقوى وأشهر منظمة إجرامية فى التاريخ الحديث، منظمة اشتهرت بإجرامها واحترامها العميق للمرأة فى المجتمع الإيطالى، مما يحيلنا إلى المكانة التى تصل إلى حد الحرمة، للمرأة فى الثقافة العربية التقليدية.
هذا التقرير مغامرة ذات طابع ثقافى، دليلنا فيها هو كتاب جديد، يدرس ويقارن بين عمارة القصور فى صقلية وبين شمال افريقيا، ومؤلفة الكتاب هى: لمياء حدة: باحثة فى تاريخ الفن والعمارة الإسلامية بجامعة نابولى - إيطاليا. متحصلة على شهادة الأستاذية فى التاريخ وشهادة الدراسات المعمقة فى علم الآثار والفنون الإسلامية من جامعة تونس، كلية العلوم الانسانية والاجتماعية، وشهادة الدكتوراه فى تاريخ العمارة من جامعة نابولى بإيطاليا، كلية الهندسة المعمارية.
تقول لمياء: إن تاريخ صقلية يضع بين أيدينا صفحة من صفحات التاريخ العام الجديرة بكل اهتمام، وذلك لموقع الجزيرة التى تعتبر همزة وصل بين أوروبا وإفريقيا وكذلك لتنوّع سكانها. إلا أن الحكم الإسلامى بصقلية لم يحظ بما حظيت به الأندلس من اهتمام وعناية رغم ما تتمتع به من ثروات ثقافية وتراث مادى جدير بأن يستأثر بإعجاب المؤرخين والمستشرقين. إلا أن المعالم العديدة الرّائعة التى وصفها الرّحالون الذين تجولوا بالجزيرة فى القرن العاشر ميلادى لم تبق منها إلا بعض الآثار، حيث يقول الرحالة ابن حوقل الذى زار مدينة بالرمو سنة 972 ميلادى «كانت لا تضاهيها أية مدينة أخرى»، ويقول المؤرخ الايطالى ميكيلى أمارى (عاش بين 1806 و 1889) «لم تبق اليوم فى كامل الجزيرة عمارة على الحالة التى كانت عليها أيام السيادة الاسلامية».
وما يجب ذكره ان جزيرة صقلية شهدت حكم العرب لمدة تقارب قرنين (825 -1091  م) وهى فترة زمنة قصيرة نسبيا، إلا أن تأثير الثقافة والحضارة العربية الاسلامية ظل مستمرا عقب غزو النورمان. وقد استفاد ملوك النورمان، خاصة خلال القرن الحادى عشر والثانى عشر ميلادى أى أثناء حكم الملكان روجار الثانى Ruggero II وغليالمو الأول Guglielmo I، من منجزات العرب المسلمين الذين لم يغادروا الجزيرة جميعا بل بقى منهم الكثير بتشجيع الحكام النرمانيين أنفسهم. فبقيت تأثيرات العرب واضحة خاصة فى مجال الفنون والعمارة، ولا تزال الكثير من تلك الآثار موجودة فى القصور وكذلك الكنائس. فالعصر النورماندى بجنوب إيطاليا يعتبر العصر الذى «اقتبس فيه رجل الشمال النورمانى عن الرّجل المسلم فنونه وعلومه وحضارته التى كانت قد ازدهرت فى بلاطات الخلفاء بالقاهرة وبغداد وقرطبة».
وأشارت إلى أنه عندما خضعت صقلية لسيطرة ملوك النورمان التامة سنة 1091 ميلادى كان يسكنها عدة أجناس مختلفة من بينها الاغريق، العرب، اللمبار وكان لكل منهم لغته وشريعته وثقافته. وقد أدرك الغزات الجدد منذ البداية قيمة هذه الثروة المتكونة من عناصر متباينة ذات العادات والتقاليد المختلفة، فكان لابد من انتهاج سياسة تتحلى بروح التسامح الدينى وتشابك العلاقات الثقافية للاستفادة من خبرة هذه الشعوب فى عديد المجالات كالزراعة والعمارة والفن. فقد نشأ عن هذا الاختلاط امتزاج لم تزل آثاره بادية للعيان رغم توالى القرون وتعاقب العصور.
من عنوان الكتاب تعتبر لمياء العمارة هى أهم ما بقى من المسلمين العرب فى صقلية، حيث يقدم هذا الكتاب مشهدًا من تاريخ عمارة القرون الوسطى بالضفة الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. فهذا البحث يمثل رحلة بين عمارة القصور الصقلية التى تعود إلى العهد النورمانى (القرن 11 - 12 م) ومقارنتها بنماذج من عمارة الامراء والخلفاء الفاطميين والزيريين بشمال إفريقيا (القرن 10 - 12 م). وذلك بهدف تثمين ما كانت عليه شعوب البحر المتوسط من تداخل فى الفنون والعادات والتقاليد مما جعل منها شعوبا متشابهة فى كلتا الضفتين. وكذلك تقييم، بشكل حاسم، اسهام وتأثير الثقافة العربية الاسلامية فى عمارة السلطة الحاكمة فى جزيرة صقلية الايطالية خلال العصور الوسطى.
وهل نحن فى حاجة إلى التذكير بأن النورمان كانوا، خلافا لملوك النصارى فى القرون الوسطى، أكثر الملوك تقديرا للمسلمين لما تحلوا به من معرفة للعالم العربى والحضارة الاسلامية التى لا يدخرون وسعا لاحتضانها. ويكفى التذكير برحلة الجغرافى الشريف الإدريسى الذى عاش قرابة الخمسة عشر عاما فى بلاط روجارالثانى وبطلب من هذا الاخير ألّف له كتابه المشهور «نزهة المشتاق فى اختراق الآفاق» المعروف أيضا «بكتاب روجار». وهو الكتاب الذى ظل ولا يزال مرجعا مهمًا فى علم الجغرافيا فى أوروبا وكذلك فى العالم العربى، لما يحتويه من خرائط مهمة ووصف دقيق لجميع البلدان التى كانت معروفة فى ذلك العصر. كما أنجز للملك خريطة العالم على دائرة فضية مسطحة planisfero عرفت أيضا باسم «لوح الترسيم» Tabula Rogeriana، نقش عليها مختلف التفاصيل لمختلف بلدان العالم، فكانت هذه الخريطة أكثر دقة ووضوحًا من خريطة بطلميوس الشهيرة.   
كما ان الملوك النورمان عرفوا باضطلاعهم بالعربية وتذوقهم للمديح الذى كان يقوله فيهم شعراء العرب بصقلية (مثل ابن قلاقص، ابن جبير، ابن حوقل).
حرص النورمان على بناء المعالم والمظاهر العمرانية على الطراز العربى الإسلامي، ومن أهم القصور التى شيّدت ومازالت باقية إلى اليوم شاهدا على آثار التواجد العربى هي: قصر العزيز، قصر القبّة، قصر الفوّارة البديع وقصر النورمان (يعرف أيضا باسم بالاتسو دى نورمانى) الذى يحتوى بداخله على كنيسة البلاط الملكى فى العاصمة بالرمو «كابلا بالاتينا» التى عرفت بالرسومات والزخارف ذات الطابع الإسلامى الموجودة فى أسقفها.     
فى حين الخصائص الهيكلية النموذجية للشكل الهندسى المكعب والعمودى للقصور الصقلية تعود أصولها إلى التأثيرات القادمة من شمال أوروبا، والتى نلاحظها خاصة فى عمارة الأبراج والقلاع النورماندية فى شمال فرنسا وأنجلترا.
وأكدت لمياء أن أغلب الدراسات الإيطالية وكذلك الأوروبية (يمكن القول كلها) التى اهتمت بدراسة العمارة النورماندية بجنوب إيطاليا وخاصة بصقلية، نسبت الأصول المعمارة لبنية القصور إلى التأثيرات العربية القادمة من شمال إفريقيا، وذلك من دون التجرأ إلى تحديد أين يكمن هذا التأثير. هذا البحث ولأول مرة يبرز نقاط التشابه والاختلاف بين العمارتين. بفضل نتائج عديدة للحفريات الأثرية والدراسات والبحوث العلمية التى أنجزت فى مناطق ضفتى المتوسط، تمكنا من تقييم شامل للعلاقات المعمارية والثقافية المتبادلة بين الحضارتين.