الخميس 28 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

القباب المصرية من سيدنا الولى إلى البرلمان والأوبرا

القباب المصرية  من سيدنا الولى إلى البرلمان والأوبرا
القباب المصرية من سيدنا الولى إلى البرلمان والأوبرا




تحقيق - منى صلاح الدين

قد لا يكون المصريون هم أول من استخدموا (فن) القبة فى تغطية الأسقف، لكن المتأمل للطرق والأشكال والفنون التى استخدموها فى تطوير هذا الفن، يتأكد أنهم ارتبطوا بها معماريا وروحيا أيضاً.. هذا الارتباط جعلهم يستخدمون القبة فى كنائسهم ومساجدهم وأضرحتهم ومساكنهم، بل ومسارحهم وجامعتهم الأم.. وبنى المعمارى الشهير حسن فتحى بيوتا من القباب تربط الفقراء بالسماء، مثلما كان للأغنياء نصيب منها فى قصورهم، لكن نموذج حسن فتحى لم يكتب له الانتشار لأسباب كثيرة.. وانحسر خلال السنوات الماضية من المنازل والمبانى المميزة، حتى ظن الكثيرون أنها ستبقى محصورة فقط على الكنائس والمساجد، لكن فجأة ظهرت القبة ثانية بأشكال جديدة، دفعت البعض إلى التساؤل: هل ستعود قبة حسن فتحى فى مبانى الكمبوند والعاصمة الإدارية الجديدة.

 يرجع علماء الآثار ظهور «القبة» واستخدامها معماريا إلى عصر الرومان الذين شيدوها فوق قبر حاكمهم العظيم «موزيل» باعتبارها فكرة لتغطية السقف ابتكرها المعمارى.
ثم أخذت القبة بعد ذلك بعدا دينيا هو أنها ترمز لعين الإله الحارس فى السماء، بعد أن استخدمت فى تغطية قبر الحاكم، لتنتشر بعد ذلك فى مختلف المبانى عبر العصور، فى المعابد وأماكن العلم وغيرها.
كما وجدت القبة وانتشرت أيضا فى الحضارة الساسانية ببلاد الفرس 228-620 ميلادية، وظهرت نماذجها الأولى فى قباب قصور «فيروزأباد» و«سرفستان» و«قصر شرين الدولة» كما يوضح دكتور عبد المنصف سالم، أستاذ الآثار والعمارة بجامعة حلوان.
فى البداية كان المسجد
بحسب رأى د. عبد المنصف، تأثرت العمارة الإسلامية بعمارة فارس والعمارة البيزنطية نتيجة للفتوحات الإسلامية، وكأحد هذه التأثيرات وتحديدا البيزنطية، شيدعبد الملك بن مروان ما يعتبر أقدم نموذج فى العمارة الإسلامية لمسجد مغطى بقبة، وهومسجد قبة الصخرة عام 72 هجرية.. وقبة الصخرة مصنوعة من الخشب ويبلغ قطرها 20مترا، ومطلية من الخارج بألواح مذهبة وارتفاعها 35مترا، ويعلوها هلال بارتفاع 5 أمتار، وهى مزخرفة من الداخل بزخارف النجوم والأهلة بألوان بديعة.
 وظهرت بعدها قبة مسجد الجامع الأموى بدمشق المشيدة عام 88هجرية بأعلى المحراب وبها 16 نافذة لتنير منطقة المحراب للإمام، وتساعد على تضخيم صوته عند الصلاة، وهى الوظائف المعمارية التى استخدمت من أجلها القبة من قبل فى الكنائس.
لينتشر استخدام القبة فى مصر بمختلف المواد المستخدمة فى بنائها سواء من الطين أو الطوب أو الحجر أو الخشب، وطرزها المختلفة، وتطورها من حيث الإرتفاع وأشكال الزخارف النباتية والكتابية.
من المسجد إلى الضريح
استخدمت القبة خلال العصور الإسلامية فى المبانى السكنية على هيئة فسقيات بوسط البيوت، وفى المبانى الخدمية وجدت لتغطى حجرات الحمامات، وبها فتحات مصنوعة من الجص المعشق بالزجاج الملون وتسمى خشخاشية، حتى يدخل الضوء لرواد الحمام من خلالها ولا يراهم من بالخارج.
وقباب الحمامات مازالت موجودة إلى الآن فى حمام السكرية وحمام الملاطيلى.
ويلفت الدكتور عبد المنصف الانتباه إلى استخدام القباب فى العمارة الحربية، ومثال لها استخدامها لتغطية «رحبة» بوابات مدينة القاهرة الفاطمية، فى باب الفتوح وباب زويلة وباب النصر، والتى شيدت فى العصر الفاطمى نهاية القرن 11 الميلادى.
تحت القبة شيخ
مثل شعبى مازال يردده المصريون، ولكنه استخدم فى الماضى للتأكيد على وجود جثمان صاحب الضريح أوالقبة بداخلها، ويقال إن هذا المثل ظهر خلال العصر الفاطمى الذى، اهتم فيه الحكام ببناء القباب الضريحية لآل بيت رسول الله، ولأولياء الله الصالحين.
وكان من بينها أضرحة تحمل أسماء بعض الأولياء، لكنها لا تضم جثامينهم، أطلق عليها مشاهد رؤيا، فكان الخليفة الفاطمى إذا رأى فى منامه أحد الأولياء أو الصالحين، يقرر أن يبنى له ضريحا، كمشاهد عاتكة والجعفرى والسيدة رقية والجيوشى والسبع بنات التى نسجت حولها القصص والأساطير.
ضريح الشيخ العبيط
«العبيط» بالعامية المصرية أو البهلول بالفارسية، أو الدرويش بالتركية، جميعها أسماء أطلقتها العامة من المصريين منذ العصر العثمانى، وتحديدا خلال القرن السابع عشر الميلادى، على ذلك الضريح فى المنطقة المعروفة الآن بميدان التحرير، كما يحكى الدكتور مختار الكسبانى، أستاذ العمارة الإسلامية بجامعة القاهرة.
وعاش هذا العبيط هائما على وجهه، ويعتقد البعض فى كراماته، وعندما حكم الخديو إسماعيل مصر، أنشأ سرايا الإسماعيلية «مقر وزارة الخارجية القديمة» بجوار ضريح سيدى العبيط، كعادة الحكام فى أخذ البركة من أصحاب الأضرحة، ولكن الشىء الغريب، كما يرى الكسبانى، أنه خلال حكم الرئيس عبد الناصر، تم بناء جامع عمر مكرم فوق ضريح الشيخ العبيط، فى الوقت الذى دفن فيه عمرمكرم بمقابر الخفير، ولم يدفن فى الجامع المسمى باسمه.. وقد سمى واحد من أهم أحياء القاهرة بحى القبة أو حدائق القبة نسبة إلى وجود قبة ضريحية بالحى مازالت موجودة إلى الآن يطلق عليها قبة الغورى الذى حكم مصر عام 906هجرية وأنشئ حولها الفساقى وزرع العديد من النباتات، ومع مرور الوقت أنشأ حولها الناس مساكنهم، وفى عام 1869شيد الخديو إسماعيل قصرا ضخما بالمنطقة أسماه قصر القبة.
ويرى الدكتور عبد المنصف سالم، أن العصر العثمانى تميز بقبابه الضخمة كما فى جامع محمد على وجامع محمد أبو الدهب وجامع سنان باشا، وبقى استخدامها الأوسع فى المساجد وأضرحة أسرة محمد على، باعتبار القبة رمزا روحيا، يشير من الداخل إلى قبة السماء العالية، التى تتجه لها الأبصار، أملا فى إجابة الدعاء.
 لكن بانتهاء هذا العصر فقدت القبة أهميتها ووظيفتها المعمارية فى المنشآت المدنية، لتصبح قبابا تذكارية أوجمالية، كما فى قصر حبيب سكاكينى وبعض المبانى بوسط القاهرة ومصر الجديدة.
وساعد على تحول القبة إلى عنصر جمالى بعيدا عن وظيفته الأصلية، انتشار طراز المبانى الأوروبية، التى تلبى الحاجة إلى منهج التوسع الرأسى وتعدد الطوابق فى المبنى الواحد، مع الزيادة السكانية وارتفاع تكلفة البناء فى العاصمة والمحافظات.
 قبة المسرح
 ويشير الدكتور مختار الكسبانى، أستاذ الآثارالإسلامية بجامعة القاهرة، إلى شكل آخر من المبانى التى استخدمت فيه القبة بعيدا عن وظيفتها الروحية، فاستخدمت للتظليل، ومنها أن يستظل تحتها من يتوضأ فى الميضأة، كما نراها تتوسط جامع «أحمد بن طولون» والسلطان حسن..  على جانب آخر، لم تخل معظم المسارح التاريخية من القبة، ليس لاضفاء الفخامة على المبنى فقط، ولكن لاستغلال وظيفة القبة فى تضخيم الصوت.
من هذه المسارح، مسرح تكية الدراويش المولوية، المميزة بطرازها العثمانى وزخارفها الداخلية الملونة بأشكال السحب والطيور، التى ترمز الى السماء والكون وتقع بالحلمية الجديدة، ومسرح محمد عبدالوهاب بشارع رمسيس، المشيد فى عصر الملك فؤاد، ومسرح سيد درويش بدمنهور والمسرح القومى.
 فالقبة كما يوضح الكسبانى، وسيلة جيدة لتضخيم الصوت وتعطى فخامة ورمزية للمكان الذى تبنى فيه، وخاصة لزخارفها الداخلية، كما استخدمها البارون إمبان فى مبانى حى مصر الجديدة، حيث جمعت بين الطراز الإسلامى والهندى المغولى فى منطقة الكوربة.
 ومن أشهر من استخدم القبة فى مبانيه المعمارى أبوبكر خيرت، الذى شيد العديد من المبانى خلال النصف الأول من القرن العشرين، على الطراز المملوكى، وتعلوها قباب، منها مبنى وزارة الأوقاف ومستشفى العجوزة.
ويعتبر الدكتور مختار، أن «قبة جامعة القاهرة» هى أهم قباب العصر الحديث، لأنها فى رأيه تعد رمزا ثقافيا واجتماعيا لايغيب عن ذاكرة المصريين.
وقبة جامعة القاهرة مسجلة ضمن الآثار الإسلامية والقبطية، كما يؤكد الكسبانى، شيدها المعمارى المصرى دكتور أحمد شارمى، بعد أن فشلت فى بنائها إحدى الشركات الأجنبية، وبنيت على طراز عصر النهضة المستحدث، لتمثل فلسفة النهضة العلمية الحديثة فى المجتمع المصرى.. وتعد قاعة الاحتفالات الكبرى بجامعة القاهرة، أكبر قاعة مسرح فى مصر، حيث تسع 3500مقعد، بارتفاع ثلاثة طوابق.
ويعد الكثير من المعماريين قبة جامعة القاهرة المشيدة عام 1935 بكمرات من الحديد ومغطاة بألواح معدنية من النحاس بطلاء أخضر، أشهر القباب فى العصر الحديث، حيث يبلغ قطرها 46 مترا بارتفاع 75 متراً.. وتأتى بعدها فى الشهرة والتميز قبة البرلمان المصرى، ثم القبة السماوية بالجزيرة، والمشيدة من الخرسانة المسلحة على الطراز العربى الحديث، وشيدها المعمارى مصطفى باشا فهمى.
أجمل قبة
لكن أجمل القباب المصرية برأى الكسبانى، هى القباب التى بنيت خلال عصر المماليك الجراكسة، والتى شيدت من الحجر وتميزت من الناحيتين الجمالية والتشكيلية، بارتفاع رقبتها وزخارف خوذتها «القبة من الخارج»، والتى أخذت أشكال الزخارف النباتية والهندسية كقبة مسجد «قانى باى الرماح» وقايتباى القرافة و«مسجد صرغتمش» بشارع الصليبة».
 القبة المتحركة
ويرى الدكتور مدحت الشاذلى، أستاذ عمارة وتكنولوجيا البناء بكلية الهندسة جامعة القاهرة، أن استخدام القبة فى توفير الإضاءة الطبيعية والتهوية من خلال النوافذ الموجودة برقبتها، وتجسيم الصوت، وتغطية المساحات الضخمة، كان من أهم الأساليب الانشائية التى يستخدمها المعمارى فى الماضى، حيث لا أعمدة ولا كمرات تعوق الحركة ولا الرؤية داخل القاعة، كما هو الحال إذا غطت المساحة بسقف مسطح.
أما الآن، فأصبح من السهل الاستغناء عن القبة، لأن تكنولوجيا البناء الحديثة مكنت من توليد الطاقة الكهربائية فوق المبانى، بما يوفر الإنارة الذاتية وتكييف المبنى وغيرها من الاحتياجات. كما يوجد الآن القبة المتحركة التى تفتح وتغلق وقتما نشاء لاستخدامها كمظلة، كما فى الحرم المكى.. ويذكر الدكتور الشاذلى سببا آخر لغياب القبة فى المبانى الحديثة، وهو التكلفة المرتفعة، بسبب قلة الصناع والبنائين المهرة من ناحية، وارتفاع أسعار الأراضى، والرغبة فى التوسع الرأسى الذى لا يتطلب القبة كعنصر للتغطية.
مراحل تطور فن القبة
«لم ولن تختفى القبة من العمارة المصرية»، بهذه العبارة يؤكد دكتور سيد التونى، الأستاذ بكلية الهندسة جامعة القاهرة، ومقرر لجنة العمارة بالمجلس الاعلى للثقافة، بقاء استخدام القبة فى عمارتنا الحديثة، كحل انشائى وجمالى فى تغطية المبانى العامة ذات المساحات الكبيرة، كالمسارح وصالات الألعاب، وفى المبانى السكنية التى تحمل طابعا مميزا يراد به استدعاء عمارة الماضى، بطابعها العربى الصحراوى.
 ويضرب التونى المثل لهذه المبانى بمبانى مقامة فى بعض القرى السياحية فى سيوة والواحات، ومؤخرا وجدنا القبة تعلو أشهر الفنادق على نيل القاهرة، وهو فندق فيرمونت بلازا.. ومن قبلها استدعاها اليابانيون ليؤكدوا الطابع العربى فى المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية، هذا فضلا عن استخدامها فى العمارة الدينية فى المساجد والكنائس والأديرة.. ويتساءل التونى حول إطلاق المؤرخين على القاهرة مدينة الألف مئذنة بينما لم يطلقوا نفس العبارة على القباب، على الرغم من انه أينما وجدت المئذنة وجدت القبة؟
ويحاول هو نفسه أن يجيب بقوله:ربما لتميز المئذنة بارتفاعها الملحوظ عن سطح المسجد.
وينفى التونى وجود أى أثر للقبة فى العمارة المصرية القديمة أو اليونانية، مؤكداً جذورها الرومانية وانتقالها إلى مصر، وحفاظ الأقباط عليها فى تغطيات الكنائس، وبراعتهم فى تقنيات بنائها سواء من الحجر أوالطوب.. ومر بناء القبة بثلاث مراحل من التطور، كان أولها استخدام الحجر والطوب فى بنائها، ثم فى عصر النهضة ومع الثورة الإنشائية كان استخدام الحديد مع بعض مواد المونهة فى بناء القباب، أما المرحلة الثالثة والأخيرة فكان البناء بالخرسانة المسلحة فى نهاية القرن 19 الميلادي، ومن أشهر المعماريين المصريين الذين استخدموا القبة فى أعمالهم المهندس رمسيس ويصا واصف الذى اشتهر ببناء القباب خاصة فى مدينة الحرف التقليدية، وأيضا المهندس المصرى نعوم شبيب الذى اخترع اسهل طريقة سجلت باسمه قبة شبيب، أما حديثا فهناك المعمارى مجدى مسرة الذى شيد الصالة المغطاة باستاد القاهرة، التى تعلوها قبة مميزة بالخرسانة.