الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الدويرى يحاكم الجهل على المسرح القومى

الدويرى يحاكم الجهل على المسرح القومى
الدويرى يحاكم الجهل على المسرح القومى




كتبت_هند سلامة


«ما ورثته عن أبى هو خير لى وكفاية»..تكررت تلك العبارة على لسان أبطال عرض «المحاكمة» الذى يعاد للمرة الثانية على خشبة المسرح القومى للمخرج طارق الدويري، فبعد نجاح عرضه الأخير «الزومبى والخطايا العشر» على مسرح الهناجر، يعيد الدويرى من جديد قراءة أفكاره على الجمهور، فهو مخرج مهموم بتحرير العقول من القمع والاستعباد، ويرجع تكرار عبارة «ما ورثته عن أبى هو خير لى وكفاية» بمبالغة وحنجورية طوال أحداث المسرحية إلى مدى تمسك وتشبث الشعوب بالموروثات الدينية والفكرية دون مراجعة أو تفكير مما يتسبب عادة فى الميل إلى محاكمة أى مفكر تتنافى أفكاره مع ما ورثناه واعتدنا عليه.
«المحاكمة» مأخوذ عن نص «ميراث الريح» تأليف جيروم لورانس وروبرت إى لي، يتناول العرض قضية محاكمة مدرس أذاع فصل من كتابه الذى يناقش نظرية داروين عن أن الإنسان يعود أصله إلى القرود، اتهمه أهل المدينة بتلويث عقيدة التلاميذ وزعزعة إيمانهم واستعانوا بعالمها الروحانى وهى الألقاب التى منحها العرض لكل فرد فيه، لتحديد مهمته مثل السيد الفاضل وهو الرجل صاحب النفوذ والسلطة الذى يقف بجانب العقيدة ويدعى حمايتها من المفكرين ويبالغ فى دفاعه حتى إنه يطالب بتوقيع أقصى عقوبة على المدرس المتهم، ثم صاحب السعادة وهو قاضى المدينة، وأخيرا السيد الموقر أو الملقب بالمتشكك وهو محامى المتهم الذى يدافع عن حقه فى التفكير.
قدم عرض «المحاكمة» على خشبة مسرح ميامى عام 2014 واليوم يعيده المسرح القومى للمرة الثانية والأولى على خشبته، وبالتالى تمت صناعة هذا العرض وتقديمه فى ذروة أوقات التراجع الفكرى الذى تعيشه مصر سواء فى 2014 أثناء خروجنا من حقبة حكم الإخوان المسلمين أو ما تشهده الساحة من محاكمة أدباء وكتاب بتهمة إزدراء الأديان، فدائما ما تواجه الدول فى عصور الظلام موجة من الحرب الشديدة والاضطهاد لمفكريها وعلمائها وكانت الحادثة الأشهر فى مصر والتى كادت تتاشبه مع رسالة «المحاكمة» ما تعرض له الباحث والمفكر المصرى نصر حامد أبو زيد من استبعاد واضطهاد فى تسعينيات القرن الماضى بسبب كتابته وأفكاره الداعية إلى نقد الخطاب الدينى ومراجعة هيمنة نصوص القرآن على الإنسان فى عصرنا الحالى قام وقتها خصومه بتطبيق قانون الحسبة والذى يقضى بمصادرة حرية الرأى والإبداع وهو ما طبقه حرفيا خصوم أبوزيد لطرده وتفريقه عن زوجته باعتباره مرتدا وخارج عن الإسلام، وهكذا تناولت المسرحية حال ضحيتها المدرس الذى طرح أفكاره وحاول مناقشتها مع التلاميذ، لكن المحكمة فى النهاية ألزمته بدفع غرامة وكفالة بدلا من الحبس.
   بما أن أوروبا كانت تعانى من سيطرة وهيمنة الكنسية فى العصور الوسطى وكتبت روايات ومسرحيات عديدة تتناول بالنقد هذا الارتداد الفكري، لكن مع تحرر الغرب من هذه السلطة فى القرن العشرين مازالت فى المقابل تعانى منها دول الشرق خاصة الدول الإسلامية التى تشهد قمعا دينيا بحجب أى فكر وأى محاولة للجدل والتأويل المختلف، والاستمرار فى التعامل مع التراث الدينى وكأنه كتل صخرية جامدة غير خاضعة لأى تأويل أو فكر أو منطق جديد فى التطبيق، وهكذا تتم أيضا مصادرة من يحاول ولو مجرد محاولة سطحية لنقد وتحليل الخطاب الدينى الحالى وهو ما حدث مؤخرا مع الكاتب إسلام البحيرى بعد تعرضه لمعارضة شديدة وسواء اختلافنا أو اتفقنا معه إلا أن هذه المسرحية تعتبر لسان حال الوضع الثقافى المصرى المتردي، فهى دعوة حقيقية لفتح الأفق على قبول الآخر ومنح حرية الجدل والتفكير لكل من أراده، خاصة أن ديننا من أشد الداعين للتفكير والتأمل بعكس ما يدعيه بعض المتشددين والمتطرفين الذى مثلهم الدويرى خير تمثيل فى هذا العمل المسرحى المهم والذى يعد من أقوى الأعمال وأشدهم دقة فى محاكمة الجهل ونبذ سياسة القطيع، فى رسائل مباشرة وغير مباشرة وفى حوار مثمر وجدل بليغ دار بين المحامى أو السيد الموقر المتشكك الذى أداه الفنان سامى عبدالحليم، والسيد الفاضل الفنان أشرف عبدالغفور الذى تقدم بدعوى قضائية لمحاكمة المدرس.
يدخل الممثلون بأداء حركى مائلى الرأس وفى مشية واحدة مع تكبير الصورة بالفيديو بورجيكتور بأداء امتزجت فيه حركة الرأس المائلة مع انسياب وارتخاء الجسد وكأنهم تحولوا إلى أجساد هزيلة سهلة الطى والتطبيع، ثم تكبير صورتهم فى أكثر من موضع على الشاشة الخلفية بالمسرح واستخدم المخرج تكبير الصورة مع أكثر من شخصية خاصة السيد الفاضل والعالم الروحانى فى إشارة لشدة مبالغتهم فى التشبث بالأفكار العتيقة البالية وفى انعكاس واضح لمدى سيطرتهم على الجميع، وكان أكثر ما تميز به عرض المحاكمة ديكور السجن والمحكمة تصميم محمد جابر بوضع كتل حديدية وسلالم مرتفعة فى عمق المسرح التى يخرج منها فى نهاية العرض محامى المتهم هاربا من المدينة صاعدا بأفكاره عاليا عنها، كما أوحت الأقفاص الحديدية بما يعانيه هذا الشعب من كآبة وحبس فى معتقدات وموروثات بالية حتى إن عالمهم الروحانى الذى يتبعونه وهو الفنان حمادة شوشة يتحرك بمبالغة شديدة وراء هذا الحديد سجنه وطريقه الوحيد للسيطرة على عقول متبعيه، وكذلك قاعة المحكمة التى صممت كى تشهد حلبة المجادلة بين السيد الفاضل والسيد الموقر بجانب الملابس التى تراوحت بين الأبيض والرمادى والأسود فى إشارة لشدة تشابههم فى اتباع نفس المنهج الفكرى والعقيدة، لكن عانى العرض هذه المرة من مشاكل كبيرة فى الإضاءة تصميم أبو بكر الشريف بعكس ما كان عليه فى المرة الأولى على مسرح ميامي، ففى إعادته على المسرح القومى جاءت الإضاءة مشتة ولم تتزن أو تتسق مع مشاهد العرض وتسببت كثيرا فى غموض وعدم وضوح مشاهد عديدة من شدة الإفراط فى إظلام معظمها فكانت قاتمة أكثر مما ينبغي، وكذلك أزمة تداخل الموسيقى التصويرية لتامر كروان مع المشاهد الحوارية كان صوت الموسيقى فيها أعلى من الحوار مما أحدث شوشرة وضياع كثير من الجمل وبدلا من أن تساهم الموسيقى فى المعايشة شكل خطأ توظيفها عبئا على العرض.
شارك فى بطولة «المحاكمة» فى افتتاحه المرة الأولى الفنان أحمد فؤاد سليم فى دور المحامى وسيطر عليه أداء الثائر الواثق من وصول صوته وأفكاره للجميع بمهارة جدله والحكمة فى إحراج خصمه، بينما لعب نفس الشخصية هذه المرة الفنان سامى عبد الحليم واتبع كلاهما مدرستين مختلفتين فى الأداء المدرسة الأولى مسرحية خالصة، بينما سيطر الأداء السينمائى على الفنان سامى عبد الحليم فى لعب هذه الشخصية الوقورة فكان أداؤه هادئا رزينا، وحرص على تقديم شخصية المفكر الفيلسوف المؤمن بقناعاته إيمانا شديدا وهذا ما يكفيه، فهو غير عابئ بإقناع الآخرين بما آمن به، بدا ذلك واضحا فى كل لفتة وحركة وعرض للمجادلة والحوار وبدت عليه هذه الحالة من عدم الاكتراث بالإقناع بقدر اهتمامه بالنقد والتمحيص، كما أنه غير واثق من اقتناعهم بهذه السهولة فهو متشكك فيما يعرضه ويؤمن به الآخرون من حقائق قاطعة ومتشكك أيضا فى مدى قبولهم لفكره وفكر المدرس المتهم بهذه البساطة والسهولة، فلم ينشغل بضرورة إيمانهم به بل انشغل بتفكيك أفكارهم وإخضاعها للجدل والتحليل والتأويل وهو ما استطاع بمهارة أن يحرج به خصمه السيد الفاضل الفنان أشرف عبد الغفور وما بين الأداء المسرحى لأشرف عبد الغفور ودفعه لأفكار خصمه بعند ومثابرة وسينمائية أداء عبد الحليم بهدوئه ورزانته جاءت المباراة التمثيلية فى الجزء الثانى من العرض الذى اشتد فيه الإيقاع أكثر من النصف الأول، وكان لأداء عبد الغفور الفضل فى ضبط إيقاع العرض وإفاقته من الهبوط النسبي، حيث عانى العمل فى نصفه الأول من الرتابة وهبوط الإيقاع خاصة فى مشاهده الأولى التى جاءت أطول مما ينبغي، كما جاء أداء جميع المشاركين متوسطا ومتساوا سواء المتهم أو الصحفى وكذلك الشعب، شارك فى بطولة المحاكمة زين نصار فى دور صاحب السعادة، حمادة شوشة، عماد الراهب، سلمى الديب، سامح فكرى موسيقى تامر كروان تعبير حركى ضياء شفيق ومحمد مصطفى.