الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

فتحى عبد السميع: الشاعر إنسان يبحث عن استنارة يصنع بها ذاته ويهدم من خلالها أوهامه

فتحى عبد السميع: الشاعر إنسان يبحث عن استنارة يصنع بها ذاته ويهدم من خلالها أوهامه
فتحى عبد السميع: الشاعر إنسان يبحث عن استنارة يصنع بها ذاته ويهدم من خلالها أوهامه




حوار - رانيا هلال

الإبحار فى عالم شاعر ثرى اللغة، مبدع التراكيب، متقد الأفكار يعد اكتشاف لبيئة خصبة رغم قدمها قدم الزمن فهو استقى مفرداته وأفكاره من بيئته الصعيدية وأجاد نقلها فى صور بلاغية تجذب القراء وتستسيغها الأذان فى تجربته الأخيرة يخطو بنا الشاعر الصعيدى الجميل فتحى عبد السميع  خطوات ثابتة براقة إلى الأمام من خلال ديوانه الأحدث «احدى عشر ظلا لحجر».

■ ماذا يمثل الديوان الجديد للمشروع الشعرى لفتحى عبد السميع؟  
- أعتقد أنه خطوة للأمام و يشكل إضافة حقيقية، من حيث تطور لغتي، وخصوصيتها، والعالم المطروح، والبناء. لكننى لا أستطيع تقدير حجم تلك الخطوة، أو الحديث عنها، أو الحكم عليها، فهناك شريك لا يتحقق المعنى إلا به، وهو المتلقى الواعى.
■ نشر لك مؤخرا كتاب عنوانه «الشاعر والطفل والحجر».. لنا أن نسأل عن دلالة الحجر فى الكتابين.. وهل هما معادلان لنفس المعنى؟
الحجر من الأشياء السحرية بالنسبة لي، لأنه يمتلك طاقة رمزية عالية جدا، فهو يوحى بدلالات كثيرة ومتناقضة، فالحجر مقدس ومدنس فى نفس الوقت، أداة البناء والقتل معا، رمز القسوة ومنبع الماء. كما يرتبط الحجر بالفن ارتباطا وثيقا بالنسبة لي، فأول ما رأيته كان الرسوم التى تزين البيوت، والنقوش الخالدة فى حجارة المعابد، بل ويرتبط ببعض الأدوات الحجرية التى عرفتها فى بيت جدى مثل الرحاية الحجرية التى تعيد إلى الأذهان ذلك الزمن البعيد حيث كان الحجر قوام الأدوات الضرورية للمسيرة الإنسانية. وكل ذلك يجعل  كلمة الحجر، تخرج من طبيعتها الحجرية وتكتسب طبيعة مائية، فلا يحمل الحجر فى كتاباتى دلالة واحدة وجامدة، بل دلالة سائلة تعبر عن كائن حى لا عن حجر واقعى. ويظهر ذلك فى مواضع فى الديوان، كما هو الحال فى البلطة الرقيقة النبيلة، أو فى قصيدة (الإبريق ورنة الخلخال) حيث «الفلاية» القاسية التى تصاب بعدوى شَعر الأم الناعم وتصير ماء.  
■ هل هناك فاصل محدد بين الشعر والسرد فى رأيك.. سواء من حيث بناء الجملة أو النص ككل؟
- الشعر طاقة والسرد من الوسائل الفنية لاصطيادها، ويمكن أن يكون السرد شعرا متوهجا، ويمكن أن يكون نثرا، ولا نستطيع وضع حد فاصل وواضح يفصل بين الشعر والسرد، إنها لمسة الشاعر، التى تنحرف بمهارة لتخرج من الفضاء النثرى، وتملأ السرد بالطاقة الشعرية المتوهجة.
■ قاطع الطريق الذى صار شاعرا.. هل أصبح أقل جرأة.. أم أكثر؟
- أصبح أكثر جرأة بالطبع، فمن السهل أن تشهر سلاحك فى وجه العالم الخارجي، وأن تسقط فى الحفرة التى صُنعتْ لك بينما تحسبها برجا من صنع يديك. من السهل أن تصبح أداة فى يد الجماعة المحيطة، تحركك كيفما تشاء، وتجعل منك مجرد منفذ لأهدافها، من السهل أن تحصل على تصفيقها، أو الحصول على شهاداتها المختلفة، ومنها شهادة الجرأة، وأنا لا أومن بالشهادات التى يمنحها المجتمع، بقدر ما أومن بالشهادات التى تمنحها الذات الواعية لصاحبها، أومن بأن المواجهة الأكبر والأشد تتم داخل الذات لا خارجها، وأن الجرأة الحقيقية هى جرأة النبش فى الذات، ومواجهة أشكال العبودية الداخلية المراوغة التى نعيش متصالحين معها، ولهذا فقاطع الطريق مجرد آلة تصنعها جماعة ما أو ظروف ما، أما الشاعر فإنسان يبحث عن استنارة يصنع بها ذاته، ويهدم من خلالها أوهامه التى يحبها، ويتمرد بها على العيش فى قطيع، ويحقق عبرها تفرده وكينونته الخاصة، الجرأة الحقيقية فى النظر إلى ظلام الأنا لا إلى ظلام العالم الخارجي.
■ أنسنة الأشياء هو أسلوب مارسه الشاعر فتحى عبد السميع فى أعمال سابقة.. لكن ربما فى هذا الديوان يصبح أكثر إسهابا.. فماذا أردت إضافته؟
- أنسنة الأشياء تحمل قيمة جمالية، وقيمة روحية، وقيمة تعبيرية أيضا، وكل ذلك يجعل منها براحا شعريا، وقد حاولت فى الديوان الاستفادة من عدد من الأشياء المرتبطة بحياتى، والتى تحولت عبر التأمل إلى مرايا لا مجرد أشياء، مرايا لا تعكس فقط، ولكنها تتوحد بى فتخلق جديدا، هكذا عشت مع الفلاية والبلطة والسجادة والشبشب، والبراية، وغيرها من الأشياء التى لم تكن عابرة فى حياتى، بل كانت تسبح فى دمى منذ الطفولة، وقد حاولت خلال تلك المعايشة تحقيق أهداف كثيرة، منها التعبير عن مواقف إنسانية، ومنها الحوار مع الشعر، والبحث عن مناطق جديدة، أو خاصة، والعثور على كتابة لها طعم ورائحة الطين الذى نبتت منه.
■ فى الديوان الكثير من الحكي.. عن الأسلاف وعن فترات سابقة فى حياة الشاعر.. هل يصبح الشاعر بمرور الوقت أكثر ذاتية.. أم أنه يتخذ من ذاته نافذة للعالم؟
- هناك أمور يستحيل استيعابها دون السلوك الموضوعي، وهذا براح العلم، وهناك أمور يستحيل استيعابها دون السلوك الذاتى وهذا براح الفن، ونحن لا نستطيع التحليق إلا بالجناحين معا، جناح العلم وجناح الفن، والشاعر ذاتى فى المقام الأول، والذاتية هنا ليست أمرًا خاصًا بالشاعر وحده وإن حملت قدرا من خصوصيته، لأن ذات الشاعر جزء من الذات الإنسانية، والتركيز على الذاتية لا يعزل الشاعر، بل يضعه فى قلب الإنسانى مع الاحتفاظ بخصوصية تمنحه شرعية الوجود كهوية حقيقية، لا كظل لهويات أخرى.  
■ المفردات العامية.. وربما الجنوبية منها.. مثل «يزرُق».. هل خفت من تضمينها فى قصيدة ذات طابع خاص كقصيدة النثر؟
- تجربتى كانت شجاعة فى الحفاوة بأية مفردة طالما كانت تناسب السياق، وتكشف أكثر من غيرها عن شعورى، فالعبرة دائما، لا بالمفردة بل بقدرتها على توليد النور، وهى قدرة غير آلية، و تأتى نتيجة تفاعل مع سياق، فلا توجد مفردات منيرة وأخرى معتمة، ولا توجد مفردة تطابق أخرى، وقصيدة النثر بطابعها التجريبى، لا تحتاج إلى شجاعة وهى تحتفى بأية كلمة عامية طالما يعتقد الشاعر بمبرر داخلى لوجودها.  
■ كيف يتحول إنسان إلى شرك.. وما هى صفات الغزال التى تحلم باصطيادها؟
- كل إنسان شرك، فما زلنا أحفاد الصياد البدائى القديم، نمارس الصيد عبر أشكال مختلفة، وما نصطاده يصبح جزءا منا، بعضنا يصطاد ملاكا وبعضنا يصطاد شيطانا، وبين الشيطان والملاك كائنات لا حصر لها تجمع بينهما بنسب مختلفة، والأهم من تلك الكائنات هناك الرغبة فى اصطياد الحقيقة، وهى عملية أبدية، تبدأ ولا تنتهى، والغزال قد تكون الحقيقة التى لابد من اصطيادها، ومع ذلك لا يمكن اصطيادها، لأنها رحلة طويلة تبدأ ولا تنتهى أبدا، فنحن نبقى حتى أخر لحظة فى حياتنا نصارع الحواجز، والأحجبة، ونسعى لمعرفة أنفسنا ومعرفة العالم.
■ يمكن للشاعر أن يرى الجمال فى كل شىء.. حتى فى مشهد تنفيض السجاجيد.. كيف رأيت هذا المشهد؟
- تنفيض السجاجيد بالنسبة لى لم يكن مشهدا عاديا، إنه حدث ممتلئ بدلالات كثيرة، فهو طقس من طقوس التجديد، يعيدنى إلى زمن الطفولة، وزمن الأعياد، والمناسبات السعيدة، حيث كنا نشارك كصغار فى ذلك الحدث، فنساعد  فى  ترتيب البيت أولا، ونعيش لحظات العثور على أشياء صغيرة ضائعة فى أدراج، أو جديرة بسلة المهملات، وهكذا رأيت المشهد، باعتباره حدثا ثريا رغم بساطته، ويستطيع عكس أشياء داخلية، مثل التعبير عن الرغبة فى التحول، أو استعادة النقاء المفقود، أو التجدد الضرورى لمسيرة الحياة.
■ إلى أين وصل مشروع الباحث فتحى عبد السميع عن الثأر.. والذى بدأ بكتاب القربان البديل؟
- كان من المفترض ظهور كتابى الثانى (ميزان الدم) منذ عدة أشهر، والكتاب يقدم الوجه الآخر للعملة، فالقربان البديل يتحدث عن طقوس المصالحات الثأرية فقط، أما ميزان الدم  فيتناول طقوس القتل الثأري، كيف نشأت، وما هى عناصرها، وأبعادها الرمزية، وما هو الثأر الذى يرحب به المجتمع والثأر الذى يرفضه، ولماذا، وما علاقة طقوس الثأر بالمقدس، والزمان والمكان والجسد الإنساني، ومنظومة الطقوس الأخرى، مثل طقوس الموت وطقوس الخصوبة.
■ وما الذى أخر ظهور «ميزان الدم»؟
- أثناء مراجعة البروفة الأخيرة للكتاب، خطرت لى فكرة ضرورة إضافة فصل آخر، يتناول القتل القانونى، المعروف بحكم الإعدام، وعقد مقارنة بين إجراءات تنفيذه، وإجراءات تنفيذ القتل الثأرى، بهدف اكتشاف البعد الطقسى المتواجد فى القتل القانونى، وتحليل رمزيته، وتوضيح الفارق الطقسى بين القتل الثأرى العرفى والقتل القانونى، وما زلت أعمل على ذلك الفصل، وأحسبه سيكون بالغ الأهمية  بالنسبة للكتاب، وبالنسبة للمنهج الطقسى الذى استخدمه.