الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«غداً» مضى... ليته يعود!

«غداً» مضى... ليته يعود!
«غداً» مضى... ليته يعود!




محمد عبدالشافى  يكتب:

كنت دون السادسة من عمرى فى ليلة شتاء بارد، أصارع النوم بعد أن احتبست أنفاسى وعلا صوت الشخير من اُنفى بسبب التهاب اللوزتين، بعد أن فارقنى النوم، فتحت عيناى لأجد نفسى مع أُبى وأُمى نفترش بلاط مدخل مستشفى بنى سويف العام، دون السقف، ونرقد على بطانية ونتغطى بأخرى فأسمع حوار الحياة، أبى يقول «الواد هيموت مننا» وأمى تبكى وتقول «يارب!». أبى يضرب كفًا على كف «ماذا افعل؟»، يفزع أبى ويضعنى على يديه مسرعًا إلى الطبيب «الواد تعبان يادكتور»، يقول الطبيب «ماذا أفعل؟ لا يوجد أسّرة فى المستشفى ولا نستطيع إجراء العملية بسبب الالتهاب، اذهب به إلى منزلك وارجع إلينا بعد اسبوعين» تكررت تلك الزيارات مرات عديدة دون جدوى.
* قضى والدى حياته فى خدمة الفلاحين من خلال وظيفته كبحارى يعمل على الترع والمصارف التى تروى اراضيهم العطشانة وتحميها من الجفاف فنال حبهم وتقديرهم، كنا نسكن فى مركز ببا بمحافظة بنى سويف وكان يحصل على راتبه من مركز الفشن فكان يحملنى على دراجته كل شهر عند صرف الراتب ساريًا بى مسافة 15 كيلو متراً، أما أمى فكانت تدبر معيشتنا وتنفذ أُوامر والدى ولم تعصه طيلة حياته.
* فى عام 1972 تركنا بنى سويف وسافرنا إلى قريتنا الكرنك مركز ابو تشت بمحافظة قنا بعد وفاة عمى الكبير (رحمه الله) كى يكون أبى إلى جوار جدتى وعمتى، فكان أبى طوع جدتى طيلة حياتها ينفذ أوامرها، كان أبى يحترم عمله ويقدسه، يصلى الفجر ثم يمتطى دابته ذاهبا الى عمله ولا يعود الا مع صلاة العصر، يلبى طلبات الناس فى أى وقت، أذكر مرات عديدة أيقظه أحد المزارعين فى ليالى الشتاء ذات البرد القارص من نومه ليذهب معه على الفور كى يفتح له بوابة الترعة حتى يسقى ارضه.
* ما من غريب يأتى إلى شارعنا للسؤال عن أحد الأقارب فأول من يستقبله أبى فيجلسه فى دوار العائلة ثم ينطلق كالسهم يطلب من والدتى إعداد الغداء فى أسرع وقت ممكن فتخبره بأنه لا يوجد ما يمكن أن تعده للغداء وقد لا يكون معه مال يكفى لإعداد وجبة الغداء فيقترض على الفور مالًا ليشترى متطلبات الغداء ويقدم الغداء للضيف فى موعده دون أن يحس بشىء.
* لمست فى رحلة تعليمى ما كان يعانيه أبواى من مشقة وعناء يقطعان من قوت يومهما لإعطائى مصروفى عند انتهاء إجازتى وعودتى إلى دراستى بكلية الإعلام جامعة القاهره فكنت أرى أبى يستدين لتوفير هذا المصروف، كنت فى السنة الثانية من الجامعة وذات يوم اتصلُت بوالدى وكان صوتى غير طبيعى فسألنى، ماذا بك؟ فقلت له أنا بخير وفى صباح اليوم التالى أخبرونى بأن والدك ينتظر فى استراحة المدينة الجامعية ولم يتركنى إلا بعد ان اطمأن علىّ، امّا أمى فى هذه الأوقات فلا حيلة لها إلاّ البكاء والدعاء وظلّت طوال عمرها تحمل همّنا وتدعو لنا ولغيرنا.
* كانا يستشيرانى فى كل شئون حياتهما كأننى صديقهما ولست ابنهما، لم يرفضا لى طلباً قط.. وافقا على خطوبتى من طالبة ثانوية رغم اعتراض أبى عليها وعلى أهلها ولم يمض عام حتى حدث خلاف وتم فسخ الخطوبة فلما عرف وكان يبنى جدارًا بمنزلنا لم يكمل البناء وحضر على الفور وأثار مواد البناء على جلبابه.
* مات أبى (رحمه الله) فى 26 إبريل عام 1999 فاعتقدت أن أمى لن تقوى على مصاعب الحياة لأنها كانت تحت قيادة أبى فى حياته، فكانت المفاجأة، فإذا بها تقوم مقام أبى، فقررت بناء منزلنا الذى أوصى به أبى قبل موته فجمعنا كل ما ورثناه عن أبى من مكافأة نهاية الخدمة التى تبلغ 12000 جنيه لم تكف لبناء الدور الأول من البيت لكن أمى واصلت البناء بعد أن اقتطعت جزءًا من معاشها عن أبى، والذى لا يتعدى 200جنيه وقتذاك، ولا أنسى هنا مساعدة أختى لها من معاشها عن أبيها كمطلقة وأيضا مساعدة أخى من راتبه الذى يتقاضاه من عمله بالسياحة وبذلك أحسسنا بأن أبى لم يمت وظلت أمى تساعدنا ماديًا ومعنويًا، إذا غبت عليها فى الاتصال سارعت بالاتصال وإذا ما أحست أنى اعانى من تعب سارعت بركوب القطار رغم سنها الكبير والحضور للاطمئنان علىّ وعلى اولادىّ وكان آخرها صيف عام 2014، حيث قضت معىّ اكثر من شهر وماتت أمى فى 23 فبراير2015.
* تلك مواقف قليلة من أُخرى كثيرة عايشتها مع أبواىّ (رحمهما الله) وقبل أن أُنهى سطورى أبعث لهما رسالتى:
أبواى الحبيبان ربيتمانى على الأخلاق والفضيلة فى زمن ندرت فيه الصفتان، ربيتمانى على الصدق فى زمن كثر فيه الكذب، ربيتمانى على الحكمة والرضا بالقليل فى زمن ساد فيه الطمع والجشع وأكل أموال الناس بالباطل، بحق ما ربيتمانى أدعو ربى أن يفسح فى قبركما وأن يُطّيب ثراكُما وأن يُكثر من حسناتكما وأن يتجاوز عن سيئاتكما وأن يجعل مثواكُما الجنة إنه نعم المولى ونعم النصير.
* فى نهاية كلمتى لا أنسى أخى وأختى، فأخى يكن لى كل حب ويحترمنى ويقدرنى ويخاف علىّ وعلى أولادى ورغم أن الغربة باعدت بينى وبينه حيث إنه يعمل خارج مصر إلا أنه يسأل عنى بالاتصال الدائم وعند حضوره إلى مصر لا بد أن يخصص من وقته لى ايامًا يقضيها عندى رغم صغر إجازته، أما أختى فقد أكملت مسيرة والدى لأنها تقوم مقامى أنا وأخى ولا تقصر فى واجب، تصون عرضنا وتحترمنا فى غيابنا وتحمل همنا ولا تبخل علينا، أولادنا هم أولادها، تتصل بى فى اليوم الواحد اكثر من مرة وتأتى لزيارتى للاطمئنان علىّ وعلى أولادى، وإذا ما أحست أن بى تعبًا سارعت بركوب القطار دون أن تبالى مشقة السفر كى تطمئن علىّ.
اكتب مقالى هذا، اليوم الاحد الموافق 19 مارس2017، وبعد غد (عيد الام) أو عيد الأُسرة، هذا اليوم كنت فى الماضى احبه حيث كان أبى وأمى إلى جوارى، لكن اليوم ماتا، فنهر الحياة نضب، وبحر العطاء جف، وبستان الحنان ذبُل، فغدا الجميل قد رحل، فهل يعود؟