الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

تفاصيل اليوم الأخير فى حياته «الشايب.. يحلق فى السماء»

تفاصيل اليوم الأخير فى حياته  «الشايب.. يحلق فى السماء»
تفاصيل اليوم الأخير فى حياته «الشايب.. يحلق فى السماء»




كتبت - رانيا هلال

وكأنه كان يودع الجميع، يعرف أن ساعة الرحيل أوشكت، وأن المتبقى لم يعد كافيا إلا لمصافحة وكلمة وداع، هم كذلك المبدعون حتى فى رحيلهم مختلفون، لا ترتفع أرواحهم إلى السماء دون أن تترك على جدران الحياة نقشة أخيرة تظل عالقة فى الأذهان، طلعت الشايب يحل ضيفا على «قعد الجمعة» فى «زهرة البستان»، وسط القاهرة، مع الروائى «وحيدة الطويلة»، ورفاقه، يمازحهم.. يناقشهم.. يوصيهم.. يودعهم، ثم ينطلق إلى «دمياط الجديدة» ليشارك فى ندوة بصالون «الثورجي» الثقافى بمدينة دمياط الجديدة، جلس بين أقرانه.. بدأت الأمسية أمسك صدره لثوان ثم كان الذهول.. عشر دقائق من الإسعافات الأولية، ثم خمس دقائق أخريات.. تصل سيارة الإسعاف.. لكن بعدما تكون روحه صعدت إلى السماء.. ليكون آخر ما قاله الشايب: «لسه عندى أمل فى مصر».
“الشايب حتى فى رحيله اختار التحليق.. اختار أن يكون نسرا.. كما كان يردد حكمته الشهيرة من كتاب «أصوات الضمير»: «فى الهند يقولون، أن الثعبان كان أول ما ظهر من مخلوقات الله... ويقول سكان الجبال: لا.. أن الله أول ما خلق، خلق النسر المحلِّق. لست مع الهنود، ولا مع سكان الجبال، فأنا اعتقد.. أن أول ما خلق الله، خلق البشر... ولكن البعض ارتفع وحلّق مع النسور، والبعض، هبط وزحف مع الثعابين».


كان الشايب واحد من أهم وأشهر المترجمين العرب ذوى المبادئ والمواقف الصارمة التى لا تنحاز سوى للحق، اهتم بالترجمة وعمل على اثارة القضايا التى تتعلق بتراجع الترجمة العربية ودأب على إعادة بث الروح فى الترجمات العربية.
يدين له الكثيرون بالفضل فى قراءة مئات الكتب الأجنبية، التى أثرى المكتبة العربية بترجمته لها، وانشغل بتوصيل الفكر الغربى للقارئ العربى بشكل بسيط لا ينقصه العمق، واهتم بنقل ما أسماه «صدام الحضارات» الذى أظهر اختلاف الثقافات بين قاطنى العالم، ولم ينس نصيبه من ترجمة الروايات الأدبية التاريخية، التى يحصل قارئها على القيمة قبل متعته الروحية، ليرحل «طلعت الشايب»، بعد أن أصبح أحد أركان الترجمة فى الوطن العربي، واستمر محاورا ومجادلا ومنشغلا بتثقيف ذويه حتى لحظاته الأخيرة من عمره.
ولد فى المنوفية وكان يشغل موقع نائب مدير المركز القومى للترجمة (المشروع القومى للترجمة سابقا)، وعرف عنه أنه إنسان خلوق ومتفان ومتواضع وخياراته فى الترجمة محكمة وليس من هواة الظهور والنجومية فى المشهد الثقافى وكان حريصا طوال الوقت أن يبتعد عن المعارك وفى المشهد الثقافى أو فى كواليسه وكان يرى أن الترجمة ليست ترجمة حرفية وحسب بل إنها تذوق وإبداع موازٍ للعمل الأصلى.
■ أشهر كتبه وترجماته
له ما يزيد عن العشرين كتابًا كان أشهرها كتاب «صراع الحضارات» لصمويل هنتنجتون و«الحرب الثقافية الباردة والاستشراق الأمريكي.. الولايات المتحدة والشرق الأوسط منذ 1945» للكاتب دوجلاس ليتل، و«أصوات الضمير» و«أن تتخيل قصة جديدة لحياتك» و«بقايا اليوم» و«عاريًا أمام الآلهة» فضلا عن ترجمته لكتاب «فى طفولتى».. دراسة فى السيرة الذاتية العربية «وهى ترجمة ذات مذاق أدبى وسردى كاملة للأطروحة التى حصل بها الباحث السويدى «تيتز رووكى» على درجه الدكتوراة فى الأدب العربى من جامعه ستوكهولم عام 1997، وتتناول مرحله الطفولة كما عبر عنها عدد من المبدعين العرب، عندما كتبوا سيرتهم الذاتيه مثل طه حسين وفدوى طوقان ويقدم فيها الباحث دراسات حاله لعشرين عملًا، كما يستخدم عددًا من النصوص المنشورة بعد ذلك كمراجع لأطروحته فضلا عن كتاب «المثقفون» للكاتب بول جونسون. طلعت الشايب تميز فى الترجمة عن الإنجليزية فكان يجيد الروسية منذ كان يعمل مع الجنرال الروسى الذى كان ضابط الاتصال خلال الستينيات بين الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وقيادة الاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت.
■ أفكاره حول الحرية الإبداعية والمترجمين العرب
تناول الشايب فى أحد أحاديثه الحرية والترجمة قائلًا: يتمتع الكاتب بدرجة كبيرة من الحرية الإبداعية؛ فالأفكار أفكاره، وهو الذى يختار من الألفاظ ما يراه مناسبًا وكافيًا للتعبير عنها، كما أنه حر تمامًا أثناء عملية الإنتاج، يغير ويبدل ويعدل. المترجم محروم من هذا الترف، محكوم بعقد ضمنى مع المؤلف، عقد يتنازل فيه المؤلف عن لغته، ويتنازل هو فيه عن أفكاره؛ ففى النص المترجم إذن، غياب للغة المؤلف وغياب لأفكار المترجم، وأضاف لما كانت كل لغة من اللغتين – المترجم عنها والمترجم إليها- «تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها»، كما يقول «الجاحظ»، أثناء عملية التحويل، ولما كانت كل ترجمة – أى ترجمة – ليست سوى القراءة الأعمق للنص فى لغته الأصلية، نستطيع أن ندرك عمق أزمة المترجم الذى يحاول أن «يخدم سيدين» فى الوقت نفسه: المؤلف الذى يقطن لغته «أى لغة النص الأصلى» والقارئ الذى يقطن لغته «أى لغة النص المترجم»، وتساءل عن ما هى درجة حرية المترجم فى التصرف، والصعوبات وهو يواجه الصعوبات المعتادة فى عملية الترجمة، وهو يحاول أن ينتقى ألفاظه هو، ويدقق عباراته هو، ويضبط معانيه هو، ويستبدل تراكيب النص الأصلى ذاته دون الإخلال بأفكاره؟
وفى موضع آخر يتحدث عن بداياته فيقول: «بدأت الترجمة نتيجة القراءة وأثناء القراءة اكتشف، أو أرى أن هذا العمل جدير بالترجمة لأسباب تتعلق بالعمل الموضوع قيمة المؤلف وأسباب تتعلق بى شخصيا وهى شعور بأننى استطيع أن أترجم هذا العمل تحديدا ترجمة جيدة، فاذا كان اختيار المرء قطعة من عقله، فإن كل الأعمال التى ترجمتها باستثناء كتاب واحد صدام الحضارات هى من اختياري، بعد قراءتها ترجمتها وقدمتها للناشرين ووافقوا عليها، فكتاب حدود حرية التعبير تجربة كتاب القصة والرواية فى عهدى عبد الناصر والسادات موضوع تجربة لم يتعرض لها ناقد عربى بينما تصدت له باحثة سويدية وكان موضوع رسالتها للدكتواره، وموضوع الكتاب هو حرية التعبير والقوانين المنظمة للنشر والرقابة الرسمية والذاتية ووسائل القمع والحظر والسجن مع دراسات حالة لأهم الأعمال التى صدرت فى إطار هذه التجربة على مدى ثلاثين عاما، اذن فالموضوع السياسى والاجتماعى الثقافى هو الذى فرض نفسه فى اختيار هذا الكتاب للترجمة.
لقارئ العربى لن يطلع عليها إذا لم تترجم، يطلع عليها فقط من يملك ناصية تلك اللغات، وهذا قليل، ولن يكون محققًا للفائدة المرجوة من حركة الترجمة، هناك مترجمون كثيرون ولكنهم يحجمون عن الترجمة، لأن المؤسسات لا تدفع ما يستحقون من مكافآت، أيضا صعوبة الحصول على المواد الجديدة وعلى الكتب، أين هو المترجم الآن الذى يستطيع أن يسافر ليحضر الكتب، أو يطلب الكتب عن طريق الإنترنت؟ والكتب أصبحت الآن تحمله تكلفة كبيرة، ولذلك الترجمات الموجودة كلها ترجمات عن لغة، عن لغة، عن لغة، عن لغات وسيطة، عن اللغة التى يجيدها المترجم، الكتاب يصل بالصدفة، جهود فردية غير محكومة بعمل مخطط.
■ أسباب استقالته من القومى للترجمة ورفضه للتطبيع
استقال الشايب من منصبه كمساعد لرئيس المركز القومى للترجمة، وعن أسباب ذلك قال فى أحد حواراته: مصر كانت عزبة كبيرة يديرها حسنى مبارك وحاشيته، ووزارة الثقافة كانت عزبة من بين هذه «العزب»، وكل مؤسسة من مؤسساتها هى عزبة أيضا، وكل فى موقعه كان يدير هذا المكان الثقافى على مزاجه بدون رقيب أو محاسبة، وكانت هذه القيادات فى هذه الأماكن، حتى بعد ثورة 25 يناير ولم تتغير، بدليل أن السياسة لم تزل مستمرة، ولم يصلها ثورة ميدان التحرير.
وكان جابر عصفور لا يقبل المناقشة، وكان مثل صاحب العزبة، كلامه نهائى، وكان حريصا على وضع وترشيح أتباع له فى كل المراكز الثقافية يدينون له بالولاء، ويتعاملون معه معاملة التلميذ للأستاذ.
كان الشايب يرفض الترجمة عن العبرية فيقول: أنا ضد التطبيع مع اسرائيل، فعلاقتها بكل من حولها علاقة غير طبيعية، وكافّةً المؤسسات الثقافية ملتزمون بعدم التطبيع مع اسرائيل وبالتالى يمكن أن تتم الترجمة للكتب الصادرة عن ناشر أجنبى، ولكن تبقى الصعوبة إذا كان الناشر هى الجامعة العبرية أو إحدى دور النشر الاسرائيلية، وبالتالى يكون السؤال كيف نسدد لها حقوقها، بالإضافة إلى ضرورة توفر الدقة المطلوبة عند اختيار الكتب العبرية قبل ترجمتها بما يخدم ولا يخل بالتوجه الثقافى لنا.