الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

السلوك الإنسانى والتنمية الاقتصادية

السلوك الإنسانى والتنمية الاقتصادية
السلوك الإنسانى والتنمية الاقتصادية




أحمد طرابيك يكتب:

 ينظر الكثير من الناس إلى سلوكيات الإنسان على أنها حرية شخصية، أو على أنها من الأمور التى لا يحق للغير التدخل فيها حتى ولو كانت تلك السلوكيات تضر بالآخرين وبالمجتمع بل وبالأجيال القادمة أيضاً، فينظر هؤلاء إلى السلوك من مبدأ «أنا حر فى تصرفاتى الشخصية»، لكنه ينسى النصف الثانى من القاعدة التى تقول «أنت حر ما لم تضر»، فحرية الإنسان الشخصية تتوقف عند حرية الآخرين، ومبدأ الحرية الشخصية يقوم على عدم التسبب فى الإضرار بمصالح الآخرين.
 السلوكيات الإنسانية منها ما هو وراثى، حيث تولد مع الإنسان وتشكل مفاهيمه وإدراكه للأمور والمواقف التى يتعرض لها الإنسان، فيولد وهو يميل إلى فعل بعض السلوكيات التى تحلو له دون أن يكون قد تعلمها من الآخرين، حتى وإن حاول البعض تغييرها، ومن السلوكيات ما يكتسبها الانسان منذ ولادته من البيئة المحيطة به، بداية من الأب والأم وأفراد الأسرة، ثم الجيران والأقارب، وتتسع الدائرة لتشمل الأقران والزملاء فى المدرسة والعمل، ثم تبدأ مرحلة ثبات تلك السلوكيات عند الانسان، حتى تصبح عادة لديه لا يستطيع تغييرها، حتى وإن اكتشف بعد فترة من الزمن طالت أو قصرت أنه أخطأ فى تعلم بعض السلوكيات أو العادات ويريد تغييرها كعادة «التدخين» على سبيل المثال.
تؤثر كثير من العوامل المحيطة بالإنسان فى سلوكياته، كالعوامل الاجتماعية والدينية وغيرها، حيث تؤثر تلك العوامل فى الإنسان عند اكتسابه الكثير من العادات والتقاليد والقيم والأعراف، ولذلك فإن التربية السليمة فى البيت والمدرسة، وخاصة فى السنوات الأولى من عمر الإنسان تعتبر من أهم المرحل فى تشكيل السلوكيات القومية النافعة للفرد والمجتمع على حد سواء، لذلك فإن التربية واكتساب السلوكيات السليمة ليست رفاهية، أو وجاهة اجتماعية، بل موردا اقتصاديًا مهمًا أيضًا للفرد والمجتمع. فلا ينكر أحد دور سلوكيات الاعتدال فى المصروفات، أو النظافة، أو ترشيد الاستهلاك، أو الحفاظ على المرافق العامة، أو العمل التطوعى العام، وغيرها من السلوكيات على التنمية الاقتصادية.
 كان الخلفاء والأمراء فى الدولة الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها، يأتون بالعلماء إلى البلاط الملكى لتربية أبنائهم التربية السليمة القائمة على اتباع العادات والقيم الصحيحة، فكانوا يحرصون على بذل النفيس للعلماء والشيوخ الكبار من أجل تعليم وتربية أبناء القصر، وكان هؤلاء العلماء والشيوخ بدورهم يعتمدون فى برامج تربيتهم على سلوكيات الاقتصاد والزهد وعدم الإسراف رغم ما يملكه أبناء الملوك والأمراء من أموال وثروات، فلم يعتمد الخلفاء والأمراء على ما يملكونه من سلطان وجاه فى تدليل أبنائهم وأحفادهم، لأنهم كانوا يعرفون جيدًا أن السلوكيات القويمة السوية هى من أهم سبل صلاح الإنسان فى جميع مراحل حياته.
ليس الإسراف فى المياه والطعام والشراب، أو اتلاف وتشويه المرافق العامة أو السير بالسيارة فى الاتجاه المعاكس أو الوقوف بالسيارة فى عرض الطريق، أو وضع طاولات المقاهى والمطاعم على أرصفة الشوارع، أو الاسراف فى أنوار زينات الأفراح والحفلات، وإلقاء القمامة والقاذورات فى الحدائق والشوارع، وإلقاء مخلفات الصرف الصحى فى نهر النيل والمجارى المائية التى يشرب منها الإنسان والحيوان والزرع، وغيرها الكثير من السلوكيات التى تضر بالمال العام وبالأشخاص الآخرين، كل ذلك لا يندرج تحت مسمى الحرية الشخصية، ورغم أن تكلفة الكثير من تلك السلوكيات يتحملها المسئول عنها، لكن يشارك الآخرون سواء الأفراد أو الدولة فى تلك التكلفة وإن كان بطريق غير مباشر، وربما تكون مشاركتهم أكثر تكلفة.
 لا يمكن للقوانين والعقوبات أن تعالج التشوه والخلل فى السلوكيات الإنسانية مهما كانت قسوة وشدة تلك القوانين والعقوبات، لأن الكثير من السلوكيات المتعلقة بالمال العام ترتبط بالحرية الشخصية، والتضييق عليها أو التشدد فيها يضر بحرية الكثير من الأفراد الذين لا يمارسون هذه السلوكيات السيئة والمكلفة للمجتمع، إلى جانب وجود الثغرات القانونية التى يتهرب من خلالها من أحكام القانون والعقوبات، لذلك فإن الدور الأكبر فى تغيير تلك السلوكيات يقع على المؤسسات التعليمية والتربوية ووسائل الإعلام والمجتمع المدني، حيث تكون التربية بمثابة الوقاية للانسان قبل الوقوع فى سلوكيات ضارة.
 لماذا نرى مجتمعات وشعوب بأكملها يتسم سلوكها بالانضباط والمسئولية؟، فنرى المجتمع اليابانى أو الشعب الألمانى يتسم بالدقة فى المواعيد، والتفانى والاتقان فى العمل، وعدم الاسراف فى الطعام والشراب، فنتعجب ونشيد بتلك الشعوب عندما نسمع أو نقرأ أنهم يذهبون إلى «السوبر ماركت» لشراء ثمرة أو ثمرتين من الفاكهة حسب عدد أفراد الأسرة أو حسب الضيوف القادمين للبيت، كما أننا نفضل شراء المنتج اليابانى أو الألمانى أو غيره من المنتجات الغربية لأنها أكثر جودة ومتانة عن مثيلاتها المصرية أو العربية.
هذه الدول وضعت برامج تربوية وتعليمية صارمة لإكساب مواطنيها تلك السلوكيات التى انعكست على الأداء فى العمل، وعلى عادات الطعام والشراب، والسير فى الشارع سواء على الأقدام أو بالسيارة، تلك الدول أرادت من وراء تلك السلوكيات توفير الكثير من الموارد، واعطاء سمعة لمنتجاتها، أى أنها ربطت بين السلوكيات والتنمية الاقتصادية، فتقدمت تلك الدول وقطعت أشواطًا كبيرة فى طريق التقدم والازدهار الذى انعكس بشكل إيجابى كبير على رفاهية شعوبها ومواطنيها.
 فى مصر وفى عالمنا العربى والإسلامى نملك الكثير من القيم التى حثنا عليها وأوصانا بها ديننا الإسلامى الحنيف والتى ترتبط بالسلوك الاقتصادى الذى نحن فى أمس الحاجة إليه فى تلك الفترة، فأمرنا بالأكل والمشرب دون إسراف، قال الله تعالي: «يَا بَنِى آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ»، وحثنا على اتقان العمل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»، كما حثنا على احترام المواعيد، ومقاومة الفساد بشقيه المادى والمعنوى، وإفشاء ونشر السلام والمودة والمحبة، وفى كل السلوكيات السليمة القويمة نجد الأمر والتوجيه الإسلامى لذلك، والتى تكفل لنا العيش فى سلام وأمان ومحبة واستقرار ورجاء وازدهار.