الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

حوار تحت أشجار الجنة

حوار تحت أشجار الجنة
حوار تحت أشجار الجنة




هشام فتحى يكتب:

أى صديقى، رفيقى فى الجنة، حمدا لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الجنة نتبوأ منها ما نشاء، جنات عدن التى وعدنا من قبل، الحمدلله الحمدلله، مرحى مرحى، أشجار وثمار، أعناب وخمور، نساء وغلمان، شهوات وقصور، رغبات نفوسنا أوامر مطاعة، خلود مقيم، يا للسعادة والهناء، ما أعظم هذا اليوم وما أجله، ما أجمل هذه اللحظة، لحظة دخولنا الجنة، انظر، مد بصرك، إنه لا نهاية للأشجار والثمار، لا حدود، لا نهائية لهذا المنظر البديع، لكن أى صديقي، مالى أراك واجما، صامتا غير فرح ولا مسرور؟
 ماذا بك؟ إنك لم تطلب شيئا من نعيم الجنة، عجيب أمرك، أمامك الفتيات فى أبهى حللهن الشفافة، تبدو أجسادهن البيضاء الرقراقة كالبللور الفضى تنتظر الإشارة بل مجرد الاشتهاء، ما عليك إلا أن تشتهى فماذا دهاك؟ لم تقطف عنقود عنب واحد، أتراك تظل على لحم بطنك؟ إن لحوم الطير شهية جدا هنا، لقد هضمت الكثير منها أمامك لكنك لا تحرك ساكنا، ماذا بك؟ أترفض نعمة ربك؟ أم ماذا؟ هل أنت مريض؟ إنه لا مرض بجنات النعيم، بل خلود وعافية، أجبنى، هل تريد الانتقال إلى درجة نعيم أعلى؟ أعلم أن هناك درجة بالجنة اسمها «النظر والمشاهدة»، أتراك تريد الانتقال إليها، لا أعرف! كلمنى، حدثنى، لا تتركنى أحاورك ولا تجيب.
شخصيا، أنا لا أرغب فى أى شىء آخر، فكل نعيم الجنة تحت يدى، ملكى، الزمن ملكى والخلود، الخمر والنساء، الغلمان والقصور، الشجر والنخيل، العسل والعنب والماء السلسبيل.
نظرت إليه مليا، حدقت بعينيه، وقلت، حياة رائعة ولا شك حياتنا النعيمية تلك، ولكن، أسألك بالله أن تجبنى على سؤالي، أترى فرقًا بين حياة الجنة هذه وحياتنا على الأرض؟ قال: لا أفهم تساؤلك يا صديقى، ألا أبنت وأوضحت؟  قلت: أما كنا بالأرض نشتهى النساء ونجدهن؟ نشتهى الأعناب والثمار، نأكل لحوم الطير، نسافر القارات البعيدة فى رحلات الطيران الرائعة، أما كنا نمتع أنفسنا بكل شىء نشتهيه؟ أما كان كل شىء تحت أيدينا؟ هل نسيت قصورنا العالية؟ وأشجارنا الوارفة؟ أما كنا نتزوج النساء مثنى وثلاث ورباع؟ أما كنا نتخذ الخليلات ونشتهى الصغيرات؟ أما كنا نسبح بمسابح اللبن والعسل بسنغافورة وتكساس؟ أما كنا نرتاد نوادى العراة وشواطئها؟ فما الذى تغير يا صديقى؟ كان كل شىء ملك أيدينا، لا أرى فرقا بين حياتنا تلك وحياة الأرض.
قال: لا تكذب على نفسك يا صديقى وتغشها، هناك فروق جوهرية عظيمة، حياة الارض مؤقتة، نهايتها الموت، أما حياتنا تلك فقوامها الخلود، ماذا دهاك؟ أنت خالد، أبدى، سرمدى كإلهك، إنك تشبه الإله فى حياته، فلا موت، لقد اكتسبت خاصية الخلود واصبحت مثله أبديا، أما لذائذ الدنيا من خمور ونساء ولحوم، وسفر وترحال، فكان قوامها التعب والفتور، الملل والشبع، الألم والمرض، العجز والشيخوخة، أما هنا فى جنات عدن، فلا ألم ولا تعب، لا مرض ولا موت، لا مشقة ولا زمن، أنت أعلى من الزمن، أنت فوق الزمن، لا تتبطر على نعمة الله يا صديقى وكن من الشاكرين.
قلت: أشعر بالغربة هنا، لكن دعنى أضرب لك مثلا، هب أن عظيمًا دعانا لقصره بالدنيا، تخيل أننا مازلنا فى حياتنا الدنيا، هب أن عظيما دعانا لقصره فى يوم فرح وسرور، ليقلدنا جوائز تفوّق (بتشديد الواو) لعمل عظيم فعلناه، فانتشينا ونعمنا، سعدنا وانتظرنا لحظة اللقاء، حملنا أمتعتنا، سافرنا للقاء الرجل العظيم، تجشمنا التعب، تعب المسير، وصورة الرجل فى ذهنينا (بفتح النون وتسكين الياء) لا تبرح المخيلة، نترقب حرارة اللقاء، ومصافحة العظيم، وصلنا للقصر المنيف، فتحوا لنا الباب، دلفنا داخل الممر الذهبى، وصلنا الباحة فوجدنا كل شىء مرتبا، صحائف الذهب، قدور الفضة، أطايب الطعام والشراب، والجوائز معلقة على الجدار، تبرق لنا ببريق الألماس، أخبرنا الخدم بأن القصر ملك أيدينا، فللننعم بالتجوال بأفنيته وغرفه، بالتريض بحدائقه وجناته، بركوب الخيل، بلعب النرد، بملاطفة الحسان، بالنوم مع الغلمان، رائع، عظيم، شهى، جميل، لكننا صديقى لم نر صاحبنا، صاحبنا العظيم، مليكنا المتوج غير موجود، أخبرونا أنه سافر فى مهمة عجلى وترك لنا القصور وملاعب الرياضة لنلعب كما نشاء ونلهو، فما الفائدة؟ أتشعر حينئذ بلذة الوصال؟ أما كنت تود أن لو انتظرك العظيم ليقلدك الجائزة؟ ما جدوى تعليق الجائزة على الجدران الخالية؟ ما جدوى جائزة من ألماس رقراق ومقلدها غير موجود؟ أما ستشعر بخيبة الألم؟ ما فائدة القصر بينما صاحبه غير موجود؟ ما فائدة الدعوة بينما داعيها بمكان آخر؟ أفهمت قصدى صديقى العزيز؟
إنه لا خير فى جنة تخلو من الله ولا سعادة، لست ماكينة جنس يا صديقى، ولست ثورا، لست حيوانا يهوى على فرائسه، أنا روح من الله مثلك، فلنبحث عنه، فلنبحث عن الروح، فلنبحث عن النور، فلنعد لمبدأنا وأصلنا، فلنبحث عن الحب والعشق يا صديقى، عن الحب الحقيقى، دعنا نهرب من هنا، دعنا نبحث عن الله فى مكان آخر، أما سمعت من قال «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة»؟ أما سمعناها من قبل سويا ورددناها مرارا، فمالى أراك قد سكنت للمادة ولذائذها ولم تلتفت للروح؟ للحقيقة، للخلود الحق، ماذا تفعل بأبدية حيوانية؟ أهذه جنة؟ أهذا نعيم؟ أى صديقي، هلا صاحبتنى فى سفر (بفتح السين) جديد، سفر قدسى، رحلة معراج جديدة للخروج من هذه الغابة لعلنا نعثر على حضن الله، لنبكى فى حضنه بحرقة، فنسأله بلجاجة لماذا تركتنا نفلت من حضنك؟ لماذا نزعت عنا دفئك؟ لماذا أرسلتنا لأتون فراقك؟ هل تأتى معى صديقى؟
قال: دعك عنى، أنا سعيد بمملكتى، محبور بنسائى وغلمانى، عطشان لخمرى وعسلى ولبنى، لحم طيرى، قصورى، صحائف ذهبى، أخرج، اخرج أنت لتبحث عن ربك، ودعنى وشأنى. حزمت حقائبى، وغادرت الجنة مسرعا، وكلى شوق للارتماء فى حضن حبيبى، حبيبى المفقود.