الأحد 22 سبتمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

رحيل الفنان حليم حبشى بعد ثمانين عاما من محاربة الخوف بالفن





بعد ثمانية وخمسين عاما من الفن والتصوير فى حالة من التأمل العميق والهادئ للأحداث توقف الفنان التشكيلى حليم حبشى عن الرسم  ورحل فى صمت كعادته بعد أن بلغ عامه الأول بعد الثمانين.

من يتأمل أعمال حبشى يجده يدور فى عالم سيريالى يصور شخوصه الخائفة والمتوترة والمرتبكة جالسة فى أماكن موحشة لا تظهر سوى بأحلامنا وهواجسنا تتسم بجدرانها المتفرقة غير المتصلة والتى تمثل سدودا عالية تحجب الرؤية مما يزيد من توتر شخوصه التى تعانى من الخوف الداخلى الذى يصل لحد الهلع، وهو ما نراه فى جلساتهم وأيديهم ونظرات عيونهم، فحبشى كان شغله الشاغل هو الإنسان الذى يسعى للتغلب على مخاوفه بممارسة الطقوس الشعبية مثل الزار الذى صوره حبشى بأحد أعماله حيث يلتف الجميع حول من تريد الخلاص من عفريتها، وهم فى حالة من الوجوم والجمود شديدى الالتصاق ببعضهم البعض لكنهم لا يشعرون بأنفسهم ولا بمن حولهم ولا حتى يسمعون صوت طبولهم!

ليست فقط الطقوس الشعبية هى المهرب إنما أيضا الأحلام والكائنات الخرافية كانت رموزا أخرى للخلاص والهروب من واقع جامد حول حياة الإنسان إلى قوالب معدنية بلا إحساس أو إنسانية.

 رغم أن بداية حبشى الفنية كانت عام 1954 وقت كانت ثورة يوليو تسعى لتثبيت أهدافها والتى تزامن معها دعوة الرئيس جمال عبدالناصر للمشروع القومي، إلا أن أعمال حبشى لم تسع لأن تكون أحد الأعمال الفنية الموثقة لتلك الفترة بل ظل على مشروعه الفنى وهو تأمل الإنسان وتصوير عذاباته عبر فرشاته وألوانه الصريحة.

الفنان التشكيلى يسرى القويضى بمجرد سماعه نبأ وفاة حبشى عاد إلى ما قد كتبه عن معرض حبشى فى سبتمبر 2004 الذى أقامه بجاليرى بيكاسو، كتب القويضى: يعرض بجاليرى بيكاسو الفنان حليم حبشى عددا من لوحاته التى يصفها بأنها خلاصة خبرة السنين، ويجمع أسلوبه بين السريالية والتجريدية مع لمحات من تأثيرات الفن الشعبي، وميل الى تسطيح عناصر اللوحة، وتصور غالبية لوحاته موضوعات من البيئة الشعبية المصرية، فى معالجة حالمة تجعلنى أكاد أن أقول أن بها مسحة تأثر بأعمال مارك شاجال مع الفارق.

العرض فى عمومه ينم عن حب كبير يكنه الفنان للفن، وكما قال لى فإنه أطلق العنان لذاته متناسيا كل التقنيات الأكاديمية - خريج فنون جميلة عام 1954- وإندفع يعبر عما يجيش فى داخله مستعينا بمخزون خبرة السنين، وقال إن الوظيفة الحكومية بوزارة التربية والتعليم سرقت وقته وجهده، فلقد كرس الفنان سنين حياته لغرس حب الفن فى نفوس التلاميذ، وأضاف فى حديثه قائلا إن سعادة غامرة انتابته عندما تلقى رسالة من أحد تلاميذه السابقين أرسلها له من كاليفورنيا حيث أصبح فنانا مرموقا بمؤسسة ديزنى الأمريكية، يقول فيها التلميذ لأستاذه «لا تبتئس ولا تدع الظنون توحى لك بأنك قليل الانتاج الفني، فعلى العكس فإن عددا من تلاميذك من عدة أجيال وفى أماكن متفرقة برعوا وأسهموا فى الحركة الفنية، وهم يمثلون إنتاجك الذى يحق لك أن تفخر به».

أما الناقد عزالدين نجيب فكتب عن المعرض الأول الفردى الذى اقامه حبشى بعد ان تعدى السبعين من عمره، يقول: بدون كتالوج يضم سيرة الفنان الذاتية ومقدمة لمعرضة كما جرت العادة، أقيم المعرض الأول للفنان المصور حليم حبشى (78سنة) بأتيليه القاهرة، بهذا التقشف يدعونا للدخول مباشرة الى عالمه، حيث يأخذنا معه لنحلق فوق الواقع بأجنحة الفلسفة، قبل أن نسأل أين كان طوال هذه السنين حتى جاء ليقيم معرضه المثير للخيال والدهشة والتأمل؟ .. ولماذا تأخر هذا المعرض حتى الآن خاصة مع علمنا بأنه لم يتوقف خلالها عن الإنتاج، بل إنه أقام معرضا خاصا بالسويد عام 1954؟


لم يكن هذا زهدا فى التواصل مع الجمهور على أية حال، فمن يحتشد مثله بهذا الفيض من الأعمال ويكاشفنا بغربة الذات مرة ويأخذنا لمساءلة المجهول مرات، هو إنسان مهموم بأسئلة مستحيلة يطلب من الآخرين مشاركته البحث عن إجابات لها، يؤكد ذلك ما كان يحمله معه باستمرار من صور فوتوغرافية للوحاته التى يضمها ألبوم ضخم عبر السنوات الماضية، يعرضها على الزملاء من الفنانين فى مجالسهم المختلفة وكأنها معرض متنقل، لا ينتظر رأيهم فى أسلوبه بل يطلب مشاركتهم له فى الإجابة عن أسئلة الفنان الفرنسى بول جوجان أواخر القرن الـ 19 فى ملحمته الشهيرة «الحياة والموت» من أين جئنا؟ وأين نحن ؟ وإلى أين المصير؟
ربما يفسر لنا ذلك ما نلاحظه من تشابه أسلوبى بينه وبين جوجان مع فارق الحس المصرى الواضح فى لوحاته، والنظرة الحزينة الأسيانة فى عيون أبطاله، لكننا سوف نكتشف أن له إنسيابا آخر لفنانين مصريين انشغلوا- ربما - بنفس الأسئلة وأولهم عبد الهادى الجزار، الذى يجمع حليم بعالمه: الطقس الشعبى لحلقات الزار، والعرائس الورقية التى تنغرس فيها الدبابيس، وهى تشتعل اتقاء للحسد، وبصمات الأكف المغموسة فى الدم فوق الرداء الأبيض للمريض الذى ركبته الأسياد، ورؤوس المجاذيب المحلوقة وهى تنظر بعيون تائهة.. لكن كل ذلك لا يجعله فى الحقيقة «جوجانيا» أو «جزاريا» إلا بقدر الانغماس فى قضية الوجود الإنسانى، وما عدا ذلك يبقى حسه الخاص ورؤيته المستقلة لبناء اللوحة وللمصير الإنسانى معا.