الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

«يوم أن قتلوا الغناء» وكيف تصنع أسطورة؟!

«يوم أن قتلوا الغناء» وكيف تصنع أسطورة؟!
«يوم أن قتلوا الغناء» وكيف تصنع أسطورة؟!




اعتدنا أن نرى على خشبات المسارح تنوعا وإعادة لقراءة الأساطير القديمة مثل أسطورة «سيزيف»، «أوديب»، «إيزيس وأزوريس»، «الإلياذة»، «أنتيجون» وغيرها من الأعمال التى أثرت التراث المسرحى على مستوى العالم، أو أن يقوم المخرج بإعداد عمل عن أسطورة من هذه الأساطير، لكن أن يتجرأ مؤلف مسرحى ويصنع أسطورة جديدة فى عصرنا الحالى هذا هو المبهر وغير المعتاد، وهو ما قام به المؤلف محمود جمال فى كتابته لمسرحية «يوم أن قتلوا الغناء» للمخرج تامر كرم الذى يعرض حاليا على خشبة مسرح الطليعة.
«يوم أن قتلوا الغناء».. مسرحية أسطورية حديثة العهد فهى ليست قراءة أو إعداد لعمل قديم كما سبق وذكرنا بينما نسج جمال من خياله ومن قصص الأنبياء عمل مسرحى محبوك دراميا وأسطوريا، وتأتى عبقرية صانع ومؤلف العمل فى انطلاقه من هذه النقطة على وجه التحديد عندما غلف عمله بملامح من بعض قصص الأنبياء دون أن يذكر أو يشير إلى أحد منهم بمعنى أدق هو لم يتناول قصة أحدهم بشكل واضح بل اكتفى ببعض من اللمحات والإشارات التى تضمنت إطارا من رسالات الأنبياء دون ذكر أو حكى أو تفصيل بل تناول من كل بستان زهرة.

بدأ العرض برجل لم يستطع تحقيق حلمه على الأرض وهلك تاركا وراءه ولدين هما «سيلبا» و«مدى» تاه كلاهما فى الأرض واستوطن كل منهما مكانا بعيدا عن الآخر، وفى أحد الليالى خرج لـ«سيلبا» قاطع طريق جرده من سترته بعد أن ألقى عليه حكمة أن «الدفء يأتى من شدة البرد.. والبرد موجود فى قلب النار»، علقت هذه الجملة برأس سيلبا وصنع لهذا الرجل تمثالا وإله يعبده فمن شدة تأثره بهذه الكلمات رأى فى هذا الرجل ما يستحق العبادة والتبجيل ثم صنع من نفسه فرعونا على المدينة وكان يأمر بقتل كل من يحاول الغناء بدأت أولى حوادثه بقتل فتاة خرجت تغنى لطفلها الصغير «اريوس» ثم أخذه ليربيه ويعلمه فنون القتال وأصبح هذا الفتى مع الوقت قاتلا محترفا بل وحشا يهابه كل من فى المدينة، وهكذا أمر «سيلبا» آريوس بقتل كل من يجاهر بمشاعر حب أو يحاول الغناء، لكن فى المقابل كان أخاه «مدى» يعيش على النقيض فهو رجل فنان عازف محب للحياة وداعيا للخير والحب واستعان بقومه وأتباعه لبناء سفينة النجاة التى تنتظر الطوفان كى يتحقق الحلم حتى تسير بركابها وتنجو بهم من هذه المدينة ومن الهلاك المحقق على يد كل من سيلبا وآريوس وفى النهاية يكتشف سيلبا أن من ظهر له كان قاطعا للطريق وليس إلها كما ظنه وزينت له نفسه، ثم يكتشف أيضا أن قائل الحكمة التى وقع أسيرا لها طوال حياته لم يكن سوى آخاه صاحب سفينة النجاة الذى أمر آريوس بقتله، وما إن يلقى آريوس أخاه ويقتله سرعان ما يكتشف حقيقة نفسه على يد الفتاة الجريئة كورمن تابعة مدى والتى يقع آريوس فى حبها بعد أن عنفته وبصقت فى وجهه ومع نهاية العرض يقرر آريوس هدم الصنم أو الإله الذى صنعه «سيلبا» من وحى خياله وهواه.
برغم أنه ليس من المستحب حكى قصص العروض بهذه الدقة وهذا التفصيل، إلا أن عرض «يوم أن قتلوا الغناء» على وجه التحديد استحق سرد حكايته على هذا النحو كى نستعرض من خلاله إبداع مؤلفه محمود جمال الذى قدم ملحمة فنية على مسرح الطليعة تضاهى فى تميزها وجودتها الأساطير اليونانية القديمة فبدلا من اللجوء إلى الاستعانة بالأخذ عن هذه الأساطير كما يستسهل البعض، قرر جمال استغلال تراثنا الدينى ونسج منه إبداعا مختلفا بتضفير صراع ابنى آدم قابيل وهابيل مع قصة فرعون موسى وسفينة وطوفان سيدنا نوح وهدم النبى إبراهيم للأصنام وفى الوقت نفسه لم يشر إلى كل هؤلاء فى جملة واحدة، بل اكتفى بالاستعانة بملمح بسيط من رسالة كل نبي، ليسقط بها على جبروت أعداء الحياة الذين يقاتلون ويقتلون كل دعوة للحب ويحبطون كل محاولة للغناء لغرس وتثبيت قيم العنف والكراهية، فبدلا من تقديم عرض سطحى مباشر، كان المؤلف أكثر ذكاء وحرفية فى اختراع وتأليف نص يجمع بين ما نعيشه من مر الواقع وسحر الأسطورة، وهو ما افتقدناه زمنا فى مجال المسرح خاصة فيما يتعلق بالأعمال القديمة فكثير ما يصر المخرجون على تقديم أعمال أسطورية منفصلة تماما عن الواقع وليس لها علاقة بما يعيشه الشعب المصري، لكن فى «يوم أن قتلوا الغناء» جاءت حرفة ومهارة الجمع بين هموم الواقع وخيال الأساطير.
بالتأكيد لا يمكن أن يكتمل إبداع المؤلف دون أن يساعده مخرج العرض بإظهار وتشكيل هذا الإبداع على خشبة المسرح فهذا العرض يعتبر أنضج وأهم عروض المخرج تامر كرم، الذى تمكن فيه من رسم العمل على المسرح كما قال الكتاب أو كما يقولون «بالورقة والقلم»، انضبطت عناصر هذا العرض بحرفة وتميز شديد فتخلى فيه كرم عن الشكل المعتاد لعروضه السابقة التى كانت تعتمد بشكل كبير على وضع كتل كبيرة ومجموعات ضخمة من الممثلين على المسرح، لكن هنا حتى مع تواجد أعداد كبيرة استطاع توزيعهم على كثرتهم بمهارة واحتراف، فلم يشعر الجمهور بالزحام الذى كان يحدث من قبل خاصة أثناء الأداء الحركي، كذلك التحمت الأغانى بالدراما ولم يكن الغناء مقحما على الأحداث والمشاهد الحوارية بل وضعت كل أغنية فى موضعها دون تقدم أو تأخر، وبالتالى أجاد كرم فى صناعة هذا العمل بشكل مدروس أكثر مما جاء بعروضه السابقة.
لم تقتصر جودة العرض على الإخراج والنص فقط بل انتقلت عدوى هذه الجودة إلى عناصر العمل بالكامل وكان أبرزها تصميم الديكور للدكتور محمد سعد الذى فتح خشبة مسرح الطليعة واستغلها بالكامل كى تستوعب أكثر من تشكيل فنى مثل قصر الفرعون وتمثال الإله ثم السفينة ومراحل بنائها إلى أن اكتملت فى نهاية العرض وصعد عليها آريوس وحبييته فإستطاع مهندس الديكور بتصميمه نقل حالة وأجواء الأسطورة إلى المتلقى وأخذنا معه إلى ما يدور بعالم هذه الفترة الزمنية غير المحددة، وكذلك فعلت مصممة الملابس مروة منير والإضاءة لتامر كرم وبالطبع التأليف الموسيقى لأحمد نبيل، لكن يبقى ما نخشاه دائما بهذه النوعية من العروض التى قد يذهب فيها الممثلون إلى الافتعال والتصنع والاعتماد على أداء مسرحى تقليدى قديم، لكن ما حدث كان العكس على الإطلاق بل تبارى الجميع فى تقديم شخصيته ببساطة ومهارة واحتراف، ربما يأتى على رأسهم بطلا العرض علاء قوقة فى دور سيلبا وياسر صادق فى دور مدى فكلاهما تمتعان بجودة وبساطة فى الأداء ولم يحدث ولو للحظة أن حاول أحدهما التصنع أو الافتعال بل كان الاثنان نموذجان للسهل الممتع والممتنع وكذلك كانت هند عبد الحليم فى شخصية الأم المقتولة والحبيبية الجرئية ولم تكتف هند بالتمثيل بل وقع عليها أيضا عبء الغناء بالعرض وكذلك طارق صبرى فى دور آريوس، وحمادة شوشة فى دور الكاهن، وصاحبهم بالأداء الصوتى المعبر الذى انتقل بنا إلى الدخول فى واقع هذه الأسطورة والخوض فى تفاصيلها الفنان نبيل الحلفاوى فساهم أداء الحلفاوى الصوتى فى السيطرة على خيال المتلقى ومعايشته لأحداث العرض الذى اعتمد معظمه على الحكى ، شارك فى بطولة «يوم أن قتلوا الغناء» أحمد الجوهري، أحمد عبد الفتاح، أحمد مصطفى، باسم الجندي، محمد ناصر، ميرنا الأمين، تصميم حركى عمرو البطريق، وعدد كبير من شباب مسرح الطليعة.