الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

واحة الإبداع.. على باب رحمتك

واحة الإبداع.. على باب رحمتك
واحة الإبداع.. على باب رحمتك




يسيل بجوار النيل فى بر مصر نهر آخر من الإبداع.. يشق مجراه بالكلمات عبر السنين.. تنتقل فنونه عبر الأجيال والأنجال.. فى سلسلة لم تنقطع.. وكأن كل جيل يودع سره فى الآخر.. ناشرا السحر الحلال.. والحكمة فى أجمل أثوابها.. فى هذه الصفحة نجمع شذرات  من هذا السحر.. من الشعر.. سيد فنون القول.. ومن القصص القصيرة.. بعوالمها وطلاسمها.. تجرى الكلمات على ألسنة شابة موهوبة.. تتلمس طريقها بين الحارات والأزقة.. تطرق أبواب العشاق والمريدين.  إن كنت تمتلك موهبة الكتابة والإبداع.. شارك مع فريق  «روزاليوسف» فى تحرير هذه الصفحة  بإرسال  مشاركتك  من قصائد أو قصص قصيرة «على ألا تتعدى 550 كلمة» على الإيميل التالى:    
[email protected]

اللوحات للفنانة غادة عبد الملك


على باب رحمتك

قصة قصيرة بقلم- أحمد محمد جلبى


تجاوزت النطاق الضيق للانطلاق، أصبح الرصيف رحيبًا حين لم أشعر بمن حولى وكأن عصفورًا فك أسره بغتة لم يدر ما حدث وما عساه فاعلا بها، تمهلت فى حما سور مدرسة لم أعد قادرًا على المضى، هل تعرف هذه الحالة، يسيطر عليك ضجرك فلا تجد جديدًا تفعله، تنام، تستيقظ مرة أخرى، تغتسل مرة أخرى، شعور سيزيف وهو يدفع الصخرة للأعلى كل يوم ويا له من عقاب، حتى صادفت الصوت. لو سمعته ستشعر أنك تعود القهقرى هذا صوت شارد رجع صدا محفور فى ذاكرة منسية منذ عقود، لا شك أنه ينتمى لذوقنا، إنما يأتى وكأنه أنة موجات راديو خشبى قديم، صوته جميل للغاية. ليس قويًا ولكنه حزين، جماله يكمن فى حزنه وانكسارات الضعف فيه، يذكرك بأشجان الماضى الجميلة وقصص الحب المؤلمة، آت من سحب القرار أو يذكرنى بصوت جدى وهو على فراش الموت يحيى تحيته الأخيرة! تأملته فى وقفته المستكينة الثابتة، جسيم التكوين، شبه الحافى ووجهه المتغضن ذو السمات السمراء، ذقن أبيض طويل مغبر، ملابس رثة يستند على عصا برأس الشومة الأسيوطى. يمد اليد للأمام فيضعون له فيها بقايا قليلة وعيناه بل ليس هناك عينان. هما تجويفان أسودان يبعثان قشعريرة فى جسدك، كان بطيئا فى سيره، لكننى سرت خلفه طويلاً، أرقب وأستمع لصوته العفى وأنا لا أشعر بمن حولى، حينها انتصف الليل، قل عدد المارة وقل تدفق النقود فى يده، فتوقف فجأة عن الغناء. اقتربت منه، وضعت بيده عشرة جنيهات، ثم ملت على أذنه هامسًا: هذه عشرة جنيهات كاملة فلا تتوقف عن الغناء. ابتسم واطبق يده بشدة وقال: أعطنى عشرين وسأغنى لك حتى الصباح» قلت له متصنعًا الغضب: «لا حاجة لى بجشع مثلك رد لى النقود» وضع النقود بجيبه بسرعة وقال: ولكن ما الذى يضمن لى أنها حقا عشرة. ربما كانت جنيها أو حتى نصفا قلت له: أترانى أغشك لتغنى الموال العبيط الذى تقوله، كل ما أريده ألا تتوقف» اغتصب ابتسامة حزينة ثم قال: أنا لا أغنى بالأمر سأغنى لك إذا جرؤت على الجلوس معى على القهوة وطلبت لى الشاى أو أى شىء آخر».
قُلت ضاحكا باستمتاع: وأنا جرىء على ذلك أخذت يده وسرنا معا فى الطريق لم أدر الاتجاه ولا كيف أخذته إلى أحد المقاهى، وما إن جلسنا حتى هم الساقى بطرده.
تدخلت: هو معى، أنا من سيحاسب على أى شىء قال له الساقى فى سأم وقرف ظاهر: «اطلب وأتمنى يا سيدى»؟
ابتسم وقال: «شيشة تفاح وقهوة تركى مانو وشوف الباشا يشرب إيه» أسرعت أقول: شاى أتى الساقى بالطلبات بسرعة عجيبة حتى ظننت أننا الوحيدان بالقهوة، بعد لحظات أخذ يدندن بصوت واثق عريض:
على باب رحمتك يا رب، قاعد ومستنى ساعة قبول ورضا وتزيل الهموم عنى من باب رحمتك يا رب، باطلب وفاء الدين من اللى ياما وسعتهم، بالقلب قبل العين أذانى يا رب القريب، ومسلمتش من القاصى وغدر بعمرى الحبيب وأظنه مات عاصى صمت ثم قال لى: «سجلت اللى قلته».
قلت مستغربا سؤاله: لا ولماذا أسجل».
قال لى: (عشان الماجستير بتاعك ولا الدكتوراه مش برضه أنت من بتوع الفلكلور الشعبى ولا أنت ملحن من بتوع اليومين دول بتدور على تيمة ضايعة، زادت الدهشة لدى والفضول، آه يا شيخ ماذا تظن أنك لا زلت مطمعًا لأحد، إنك لم تفقد قيمة تدعيها لنفسك بين الأحياء، أو لا يزال يداعبك الأمل فى شىء من الحياة وأنت بهذه الحالة ربما. قلت متأثرًا بما انصرف له قلبى: أو تسمح لى بتسجيل الكلمات والألحان فى جلستنا هذه بل وتقول للصبح كما وعدتنى؟».
قال لى: بالطبع بل وكل يوم لو أنك رأيت ذلك فيه إفادة قلت له: من أين تعلمت تلك الأصوات.
مال على وقال همسًا: «لم تفترض أنى ولدت ضريرًا شحاذًا بلا عافية» بالرغم منى ضحكت من طريقة نطقه المتلونة، أخرجت الموبايل وأدرت التسجيل وكأنه أحس فاعتدل واستقر على الكرسى وبقوة انطلق:
أصلى بجدرم الصعيد، ويمكن كمان نوبى
أنا ما خبرش إن كان أكيد وده يفرق إيه فى توبى،
أحلامى فوق الوصف وبتبتدى من هنا لبعيد،
إنما والدنيا حوجانا لمد الأيد،
واللقمة والهدمة مهماز ولجام ونخسهم شديد
يسوى ضهرى وش وقفا سخمة العديد
إش يعمل العمر المديد،
وكل السنين والأيام وكان ألف ألف عيد،
وحقى فى الضنك بيزيد
وحقى م الحياة مهضوم والعيشة زى الشريد،
هج المهندس والطبيب واللى ضاع فى البحر غايب أو يا عالم مات شهيد،
الظلم طخ عيار نافد على كلمتى وبسمتى وضنا عشر تلاف بلد،
والسوق بلع الصبايا والعيال الخضر اللى اتفطم واللى اتولد،
مليون غلطة ع الرصيف حتى الرغيف بقى بالجلد،
والناس فى الدوخة ومش حاسين نهش الجسد،
زحف الخراب سكاكين حديد وانفار ومعاول هدد،
بصوا على اللى جاى يا مغيبين نمل وجراد،
جالبين وراهم عدة وعتيد ومدد،
وتزيد الحروق والشقوق اتسدى بقى اتسدى يا آهات من غير عدد
وآه يا بلد آه يا بلد؟
وأنا أجمع شتات الكلام من العيون والأوجه اللى شدها حضوره الطاغى على مسرح المقهى اسكته: يكفى. استرح قليلاً انفعالك أفلت من أسر العقل يحسن أن نتناول شيئًا آخر بل ربما نأكل يا»... أومأ برأسه وسمعت أصواتا خفيضة من الجالسين: اتركه يقول أكثر.. صوته مثل الرعد مؤثر أعد تلك التى شهق فيها. كيف قال تلك الجملة. انظروا إليه. هل حقًا هو شاعر. أظنه ملحن ألا ترى كيف يؤدى الموال. لمحت شبح ابتسامات مع ما انعقد من حاجبيه وأظنه كان يصغى السمع لما يدور، كان هناك المزيد مما قاله فى تلك الليلة، انصرف رواد المقهى ببطء على أذان الفجر، كنت قد سجلت عدة ساعات أشياء لا أعرف بالضبط ما نفعها بالنسبة لى، نفحته ما فى حافظتى بعد سداد الطلبات، مع وعد بأن أحضر المزيد من الوقت معى والنقود أنشدنى شهرًا تاريخ من لا تاريخ لهم صورًا ومواقف بالنغمات عاندت الأوزان كثيرًا وصالحتها أو صافحتها. وقطرت الأبحر وأغرقتها، أهى الفطرة أم التمكن من مخالفة ذات الأصل، هكذا أخبرنى الوقت إلا حيلة وراء الصوت والشدو الموهوب إنه إنسان أو أن القصة نبض الشخص بطلا كان أو كذابا أو أنها لا قصة على الإطلاق.