الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

محمود سامى البارودى ... فارس ساند سيفه القلم






يوافق اليوم مرور العام الثامن بعد المائة على رحيل «رب السيف والقلم» محمود سامى البارودي، أحد زعماء الثورة العرابية، الذى تولى وزارة الحربية، ثم رئاسة الوزراء... ولد البارودى بمدينة بدمنهور بمحافظة البحيرة فى السادس من أكتوبر 1839 لأبوين من أصل شركسي من سلالة المقام السيفى نوروز الأتابكى وكان أجداده ملتزمى إقطاعيةإيتاى البارود بمحافظة البحيرة ويجمع الضرائب من أهلها، نشأ البارودى فى أسرة على شىء من الثراء والسلطان، فأبوه كان ضابطا في الجيش المصرى برتبة لواء، وعُين مديرا لمدينتي «بربر» و«دنقلة» في السودان، ومات هناك، وكان محمود سامى حينئذ فى السابعة من عمره، التحق بالمرحلة التجهيزية من المدرسة الحربية وانتظم فيها يدرس فنون الحرب، وعلوم الدين واللغة والحساب والجبر، بدأ يظهر شغفا بالشعر العربى وشعرائه الفحول، حتى تخرج عام 1855 برتبة «باش جاويش» ولم يستطع استكمال دراسته العليا، والتحق بالجيش السلطاني، ثم عمل بعد ذلك بوزارة الخارجية وسافر إلى الأستانة عام 1857، وتمكن فى أثناء إقامته هناك من إتقان التركية والفارسية ومطالعة آدابهما، وحفظ كثيرًا من أشعارهما، وأعانته إجادته للغة التركية والفارسية على الالتحاق بقلم كتابة السر بنظارة الخارجية التركية وظل هناك نحو سبع سنوات    فى الفترة من 1857-1863.
 
 
وعندما سافر الخديو إسماعيل إلى العاصمة العثمانية بعد توليه العرش ليقدم آيات الشكر للخلافة، ألحق البارودى بحاشيته، فعاد إلى مصر في فبراير 1863، وعينه إسماعيل مساعدا لأحمد خيرى باشا على إدارة المكاتبات بين مصر والأستانة، ضاق البارودى برتابة العمل الديوانى وحنّ إلى حياة الجندية، فنجح في يوليو عام 1863 فى الانتقال من ديوان الخديوى
 
إلى الجيش برتبة «بكباشي، وأُلحقَ بآلاى الحرس الخديوى وعين قائدا لكتيبتين من فرسانه، وأثبت كفاءة عالية فى عمله. فى أثناء ذلك اشترك فى الحملة العسكرية التى خرجت عام 1865 لمساندة الجيش العثمانى فى إخماد الفتنة التى نشبت فى جزيرة كريت، واستمر فى تلك المهمة لمدة عامين أبلى خلالها بلاء حسنًا، وقد جرى الشعر على لسانه يتغنى ببلده الذى فارقه، ويصف جانبًا من الحرب التى خاض غمارها، فى رائعة من روائعه الخالدة التى مطلعها:
 
 
وهفا السرى بأعنة الفرسان
 
 
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان
 
 
فوق المتالع والربا بجران
 
 
والليل منشور الذوائب ضارب
 
 
إلا اشتعال أسِنَّة المران
 
 
لا تستبين العين فى ظلماته
 
 
وكان أحد أبطال ثورة عام 1881 م الشهيرة ضد الخديو توفيق بالاشتراك مع أحمد عرابي، وقد أسندت إليه رئاسة الوزارة الوطنية في4  فبراير 1882 حتى26  مايو 1882 بعد سلسلة من أعمال الكفاح والنضال ضد فساد الحكم وضد الاحتلال الإنجليزى لمصر عام 1882 قررت السلطات الحاكمة نفيه مع زعماء الثورة العرابية فى 3 ديسمبر عام 1882 إلى جزيرة سرنديب «سريلانكا».
 
 
فى المنفى شغل البارودى نفسه بتعلم الإنجليزية حتى أتقنها، وانصرف إلى تعليم أهل الجزيرة اللغة العربية ليعرفوا لغة دينهم الحنيف، وإلى اعتلاء المنابر فى مساجد المدينة ليُفقّه أهلها شعائر الإسلام، وطوال هذه الفترة قال قصائده الخالدة، التى يسكب فيها آلامه وحنينه إلى الوطن، ويرثى من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه، ويتذكر أيام شبابه ولهوه وما آل إليه حاله، ومضت به أيامه فى المنفى ثقيلة واجتمعت عليه علل الأمراض، وفقدان الأهل والأحباب، فساءت صحته، بعد أن بلغ الستين من عمره اشتدت عليه وطأة المرض وضعف بصره فقرر العودة إلى وطنه مصر للعلاج، فعاد إلى مصر يوم 12 سبتمبر 1899 وكانت فرحته غامرة بعودته إلى الوطن وأنشد أنشودة العودة التى قال فى مستهلها:
 
 
أبابل رأى العين أم هذه مصر
 
 
فإنى أرى فيها عيونا هى السحر
 
ترك البارودى ديوان شعر فى جزئين ومجموعات شعرية سُميّت مختارات البارودي، جمع فيها مقتطفات لثلاثين شاعرا من الشعر العبّاسى وأيضا مختارات من النثر تُسمّى قيد الأوابد.
شهادات عن البارودي
 
 
استعرض الدكتور يسرى عبدالله أستاذ النقد الأدبى بآداب حلوان تفاصيل القيمة الشعرية للبارودى بوضعها فى سياقها التاريخى قائلا: يمثل محمود سامى البارودى قيمة تاريخية فى مسيرة الشعر العربى خاصة أنه جاء فى أعقاب مرحلة من التردى الإبداعي، التى حولت الشعر إلى مجرد زخارف لفظية ولغوية، اعتمادا على الموروث البلاغى القديم ليس من أجل تطويره والبناء عليه، بل مثلت المحاولات الشعرية التى سبقت البارودى إغراقا فى التكريس للصيغ الإنشائية القديمة والمحسنات اللفظية التقليدية دون أدنى محاولة للاهتمام، ولو بقدر ضئيل، بالخيال الشعرى كما أن المرحلة التى سبقت البارودى شهدت أيضا ركاكة أسلوبية وشاع فى الشعر منطق ساذج وبرزت ظواهر تعيسة مثل حساب الجمل.
 
 
وأكمل: جاء البارودى ليعيد الاعتبار إلى الشعرية العربية آنذاك من خلال تبنى النماذج الشعرية السامقة للشعر العربي، وبذلك أعيد للفظ رونقه وللأسلوب جزالته، إلا أن ذلك كله يجب ألا يجعلنا نتعامل مع البارودى بوصفه مجددا للشعر العربي، إنه فى رأيى قد حاول رفع الركام الذى ران على هذه الشعرية العربية فى الفترة التى سبقته ولذلك يصبح النظر العلمى الدقيق لشعر محمود سامى البارودى معتمدا على وضعه فى سياقه التاريخى بوصفه أحد أبرز الفاعلين فيما يسمى بشعر الإحياء.
 
 
بينما استعرض الشاعر والناقد الأدبى شريف رزق دور البارودى وقيمته الشعرية وظلالها الممتدة حتى الآن على الحركة الشعرية العربية المعاصرة، مع احتفاظ كل مرحلة منها بخصوصيتها الشعرية، يقول رزق: محمود سامى البارودى كان يستحق بالفعل لقب «رب السيف والقلم» ورائد مدرسة «الإحياء والبعث» بالشعر الحديث، لأنه اضطلع وحده بالنهوض بالشعر العربى من كبوته بعد  فترة طويلة من الركود كان حال الشعر العربى فيها هو نفسه حال الأمة العربية، فقام البارودى ببعث الروح الشعرية القوية من جديد حينما قام بمعارضة القصائد الكبرى لكبار شعراء العربية فى عصور القوة والازدهار فى نبرة شعرية قوية وشديدة الأصالة، تعبر كذلك عن روح شعرية معاصرة.
 
 
وكان البارودى بجانب هذا الدور التاريخى أحد زعماء الثورة العرابية، تتلمذ على يديه رواد الشعرية العربية الجديدة ومنهم أحمد شوقى وإسماعيل مظهر وحافظ إبراهيم الذين يمثلون تيار الكلاسيكية الجديدة وهم ممن أسسوا لنهضة الشعر العربى من جديد لتأتى من بعدهم الرومانسية ومابعدها، فالبارودى كان بداية سلسلة وحلقة شعرية فى إنجازاتها التاريخية المغايرة.
 
 
يذكر أن البارودى كان كاتبا مهما فى نثره الفنى ولكن غلب عليه دوره كشاعر رائد اضطلع وحده بوصل التجربة الشعرية الجديدة بتاريخها المجيد، فكان أهم قناة تصلنا بالذاكرة الكبيرة التى كان من أعلامها المتنبى وابن الرومى وأبوتمام،فكان استخدامه للغة العربية فى أقوى حالاتها بمثابة تحد له أمام اللغة التركية التى كانت سائدة فى ذلك الوقت، فلولا دوره التأسيسى فى الشعر العربى لما كنا وصلنا لهذه اللحظة الشعرية العربية الراهنة حيث كان له العديد من التلاميذ العرب، كما أعاد البارودى قصائد المديح «المحمدية» للشعر العربى مرة أخرى، وكانت له قصيدة مطولة طبعت وحدها فى كتاب مستقل، وكانت له قصائد فيما يسمى شعر المناسبات، كما كتب فى الحنين للوطن والإحساس بالغربة.
 
 
وعن لو كان هناك امتداد لشعر البارودى فى المرحلة المعاصرة، قال رزق: كل ما جاء بعد البارودى مترتب عليه، سواء يالإيجاب او السلب، فمثلا شوقى كان تلميذا له إنما لغته كانت أكثر معاصرة، بينما اللغة عند البارودى كانت أكثر بداوة وتاريخية ومعجمية، فلم يهتم بالمعاصرة قدر اهتمامه بكتابة نص محكم وجزل، ونرى آثار ذلك فى شعر أحمد بخيت وعماد غزالى وأحمد شلبى إيهاب البشبيشى ومن بعدهم أحمد حسن وحسن شهاب الدين وسيد محمود، الذين لهم تجارب تحاول أن تكون امتدادا لشكل القصيدة المحكم مع الاحتفاظ بخصوصيتهم الشعرية، أيضا فى الأجيال الجديدة هناك بعض الشعراء عادوا للشكل الكلاسيكى للقصيدة.
 
 
وأشار رزق فى ختام حديثه إلى قيام مؤسسة «البابطين» الثقافية فى أوائل الألفية الثالثة بتخصيص دورة كاملة عن البارودي، وخصصت حلقات دراسية عنه، كما طبعت أعماله الكاملة.
 
 
فى محاولة للربط بين ذكرى رحيل محمود سامى البارودى والمشهد السياسى الراهن يقول الشاعر محمود قرني: البارودى واحد من الذين أعادوا الروح للغة العربية والشعر العربى والقومية المصرية على السواء فى وقت كانت تعانى فيه مصر والعالم العربى تحت وطأة التدمير الكامل للهوية فى حقبة الكولونيالية التى امتدت لأكثر من مائة عام تكريسا للمركزية الأوروبية، على المستوى الشعرى استطاع البارودى أن يعيد للشعر العربى قيمته التى توقفت بعد العصر الأموى حيث كانت اللغة أقرب ما تكون إلى اللهجات المحلية التى لا يمكن قراءتها إلا باعتبارها انحطاطا للروح القومية، وما من شك فى أن البارودى كان أستاذا مباشرا لكل شعراء مدرسة الإحياء بداية من شوقى مرورا بولى الدين يكن والجارم وعلى أحمد باكثير وكل الرعيل الذى شحن اللغة العربية بطاقات جمالية وتخييلية عاشت معها حتى اليوم فى الوقت نفسه كان البارودى على المستوى الوطنى واحدا من أكبر أنصار الثورة العرابية مدافعا عن شعبه وعن قضيته الوطنية خارجا على كل ما يريده الاحتلال والسراى التى كانت تحكم بالحديد والنار، وكلنا يعلم بقية القصة التى بدأت بمؤامرات الخونة والعملاء على ثورة الشعب، وانتهت بنفى أحمد عرابى والبارودى إلى سيلان (سرنديب)، وعاد الرجل من منفاه بعد أن فقد بصره وفقد ابنا من أبنائه، لكنه لم يفقد دوره كشاعر رائد ستظل قيمته الشعرية تجوب الآفاق علامة على الصحوة المصرية التى بدأت بحركة تحديث واسعة مع الدولة العلوية.