الثلاثاء 19 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

عودة الأوبريت السياسى

عودة الأوبريت السياسى
عودة الأوبريت السياسى




كان للشاعر الراحل بيرم التونسى حضورا فنيا ملحوظا فى ختام أيام الشهر الكريم، حيث أعاد المخرج المسرحى سمير العصفورى صياغة وتقديم عرضه «العسل عسل.. والبصل بصل» فى ثوب جديد على خشبة مسرح ميامى للمخرج إيميل شوقى والذى سبق وأن قدمه على مسرح الطليعة عام 1986 وحقق العرض وقتها نجاحاً ساحقاً، «العسل عسل» مأخوذ عن حياة وأشعار بيرم التونسى الغنائية، وكذلك فى احتفاله بمرور 30 عاماً على إنشاء فريق الورشة المسرحى قرر المخرج حسن الجريتلى تقديم أوبريت «يوم القيامة» لبيرم التونسى بعنوان «قيامة قايمة»، وبرغم اختلاف خلفية الفريقين الإنتاجية إلا أن كليهما استحضر سحر وروح المؤلف الغنائى السياسى الساخر.
فى الإعادة الثانية لعرض «العسل عسل» قدم المخرج سمير العصفورى صياغة وإعداد جديد يوافق زمن العرض ووقته الحالى الذى تغير فيه إطار الظرف السياسى وإن كان هناك تشابه فى شكل الصراعات السياسية السائدة ليس فى مضمونها بالطبع ولكن فى معناها، فاختلف أطراف الصراع لكن بقيت معانى الاختلاف واحدة، ففى قالب غنائى كوميدى ساخر نسج العصفورى ومعه مخرج العرض إيميل شوقى عرض مسرحى غير تقليدى فى شكله ومضمونه، وفى أسلوب ومنطق تناوله للإسقاط على الواقع المصرى الحالي، فهو عمل مفكوك وطيع على المستوى الفنى والدرامى قابل للحذف والإضافة لأنه غير مرتبط بشخصيات ثابتة أو حكاية واضحة تجمع أبطاله تحت مظلة رواية لها بداية ومنتصف ونهاية، وتحقيقا لهذا التطويع الفنى جمع العرض بين فنون مسرح الشارع بشكلها الكرنفالى وبين فن الأوبريت الغنائى مثلما يقول المؤلف «أود أن أوجه نظر حضراتكم إلى أن كل شخصيات هذا العرض كانت مجرد كلمات»، فلم يعتمد العرض على شخصيات درامية مرسومة بشكل متكامل بل اعتمد فى شكله ومضمونه على السجع والغناء بجمل متقطعة فى وصف وحكى كل لوحة تتناول قضية من قضايا المجتمع كما قال على لسان صناعه خلال أحداث العرض التى تدور بعد ثورة 1919 بدقائق ففى اللوحة الأولى تتحدث عن أحداث ثورة 1919 وما تلاها من ثورات سياسية حتى ثورة 30 يونيو، ثم لوحة أخرى بعنوان المفاجأة، ثم مشهد لمبة الجاز يتخللها أغنية «زمان»، ثم مشهد المطعم، «السفارة»، «الإنتخابات»، «الصحافة»، «قصيدة الظلام»، العرض اقترب، مقدمة السجق، «الأستاذ»، القنبلة الذرية»، باريس، غرفة العروسين، المركب، هكذا كانت مشاهد العرض متفرقة ومتنوعة جمعت بين غناء وأشعار التونسى بجانب صياغة حوار فنى مسجوع ، تميز بذكاء نقده اللاذع والسخرية من أوضاع سياسية واجتماعية خلال تلك الفترة كما إعتاد أن يفعل بيرم التونسى فى حياته وبالطبع بإسقاط فنى محكم ومستتر على الفترة الحالية.
قدم العرض كما سبق وذكرنا فى شكل كرنفالى بإستخدام الألوان الزاهية بالملابس والديكور الذى صمم فى إطار شكل الخيمة الرمضانية تماشيا مع أجواء الشهر الكريم وكذلك راعى المخرج فى تصميم الملابس والديكور المزج بين الشكل الإحتفالى للحاضر وفترة ثورة 19، فى مزج فنى ممتع بصريا ودراميا، وبالطبع كان لحضور الممثلين القوى على خشبة المسرح وخفة حركتهم وظلهم جميعا تأثير كبير فى تحقيق هذه المتعة الفنية خاصة المطربة فاطمة محمد على التى قدمت مقاطع العرض المغناة بأداء فنى ساخر وخفيف وكذلك الفنان مفيد شاعور أما علا رامى كانت مفاجأة العرض فاستحضرت روح البلارينا على خشبة المسرح وتحملت عبء الرقص والإستعراض فى أكثر من لوحة فنية قدمتها بمهارة ومرونة، ففى هذا العمل الإستثنائى المتميز الذى نجح بشكل قوى فى السيطرة على وجدان الجمهور، استطاع أن يحتويك ويسيطر عليك بمشاعر مختلطة ومتباينة فتشعر فيه بمزيج من الضحك والبهجة والحب والهزل والجد والكراهية والألم والغصة والمرارة كل هذه الإنفعالات والمشاعر اجتمعت فى نسيج فنى واحد لا يجمعه إطار درامى متماسك، ففى هذا العرض جمع العصفورى بين تجربة بيرم التونسى الشخصية وزجله وسخريته وأشعاره الغنائية بحرفة فنية عالية، شارك فى بطولة العرض وائل أبو السعود، جلال الهجرسي، أشرف شكري، حسان العربى، ناجح نعيم، أحمد زايد، وائل شاهين، وغناء صوتى للطفى بوشناق، ديكور ناصر عبد الجافظ، وأزياء دنيا الهوارى موسيقى وألحان حاتم عزت.
كذلك لم يشأ أن ينهى هذا الأسبوع المسرحى حكايات التونسى فى «العسل عسل» فقط، بل كما ذكرنا فى بداية المقال حرص فريق الورشة خلال شهر رمضان على إعادة أوبريت «قيامة قايمة» المأخوذ عن أوبريت «يوم القيامة» لنفس المؤلف، وقدمه الفريق بمقر الورشة فى شارع شريف، وبرغم صغر حجم المكان والمسرح المقام عليه العرض إلا أن الجمهور لم يفقد استمتاعه به، «يوم القيامة» أوبريت مسرحى موسيقى غنائى يتناول حكاية شائعة أطلقها والى مصر فى القرن الثامن عشر مفادها أن يوم القيامة سيقوم بعد صلاة الجمعة التالية وكانت نية الوالى أن يستغل الفوضى الناتجة عن هذه الشائعة لسرقة بيوت أهالى القاهرة وجمع الخراج السنوى لإرساله للسلطان العثمانى بعد أن أنفق المبالغ التى جمعها لهذا الغرض، وهنا اختلف رد فعل الشعب المصرى حول استقباله لشائعة اقتراب «يوم القيامة» فالفقراء فرحوا لمجيئه وبشروا أنفسهم بنعيم الجنة الذى حرموا منه فى الدنيا وأخذوا يتغنون «يوم القيامة يوم هنا.. يا حظنا يا أنسنا»، أما الأغنياء فأخذوا فى التضرع إلى الله واستغفاره بغناء «يا لطيف» خوفا من لقائه وحسابه، والدراويش أخذوا يلقون ابتهالاتهم الصوفية «يا ويل الناس يا ويل»، احتوى العرض أيضا على عدد كبير من الأشعار الغنائية مثل موال «عاشق يا أنا»، «بعد النعيم»، «جينا من الشام»، «الكراسى الموسيقية»، «يا فرحتى بعد الخصام»، وحمل هذا العمل الكثير من الرسائل السياسية والعقائدية والفلسفية التى تمس النفس الإنسانية  فى قالب غنائى شعرى ساخر، فأطلق المؤلف العنان لخياله لتصور كيف سيكون استقبال كل إنسان لخبر القيامة فهناك من فرح وهناك من حزن وهناك ما لم يهمه الأمر كثيرا سوى أن يستكمل ما تبقى له من عمر، بجانب اسقاطه السياسى على الآلعيب السياسية التى قد تخترعها الحكومات لإلهاء الناس عن حدث جلل يحدث فى غفلة منهم، وبعد أن تنتهى الشائعة ويكتشف الناس لعب الحكومة بهم يسعد المحزنون مغنيين «سلامات سلامات ألف سلامة اتأجل يومك يا قيامة»، بينما فى المقابل يحزن الغلابة والمحتاجين منشدين «ضحكوا علينا وشحاطتنونا الله يكيدهم كما كادونا» فى تباين واضح بين من لانت له الدنيا فتمنى الخلد بها ومن غدرت به فتمنى الموت عنها وترك كل ما فيها أملا فى نعيم الآخرة، فكرة تحمل قدر كبير من فلسفة الإيمان بعدالة السماء بالجزاء والعقاب وحب الدنيا وكراهية الآخرة.
لم يستعن المخرج حسن الجريتلى بأى ديكورات تذكر ولا قدم أوبريت غنائى ضخم كعادة هذه الأعمال الغنائية التى تحتاج إلى أماكن مجهزة، ومبالغ مالية باهظة لتقديمها فى قالب مسرحى موسيقى متكامل، لكن دائما ما يفاجآنا الجريتلى وفريقه ويمنح دورسا فى فن الممكن والمتاح بإمكانية تقديم أعمال مسرحية عظيمة ذات قيمة فنية وفلسفية عالية بإمكانيات مادية شديدة البساطة، تخرج منها بمذاق ومزاج فنى مختلف، فإعتمد العرض على جمال أصوات وأداء المشاركين به، بجانب حملهم لمجموعة من الكراسى يتحركون بها بين الجمهور وعزف الفرقة الموسيقية لقائدها ماجد سليمان، ففى جلسة مسرحية شديدة البساطة والحميمية بهذه القاعة الصغيرة الفقيرة تقنيا والغنية فنيا وفكريا شهد الجمهور أحوال وأهوال «يوم القيامة» كاملة بمقر شقة الورشة الصغيرة بشارع شريف بوسط البلد، فهذا الفريق دائما ما يساهم بشكل حيوى وفعال فى إحياء التراث المسرحى المصرى الغنائى على طريقته الخاصة جدا.
شارك فى بطولة «قيامة قايمة» محمد اسماعيل «ميدو»، باسم وديع، داليا الجندي، زكريا تاج، عبير على، مؤمن زكى، محمد جمال، نشوة طلعت، ياسمين أسامة، ريهام الوديدي، بهاء طلبة، حازم الصواف، محمد شعراوي، شيماء العلايلي، أمنية زهران، صفا هلالي، منة منصور، وموسيقى ماجد سليمان على عود، طبلة جمال مسعد، رأفت فرحان كولة، عمرو دوريش كمنجة، إضاءة شريف الدالى، ملابس نشوى معتوق.
اشتهر بيرم التونسى بسخريته السياسية اللاذعة من الأوضاع الاجتماعية والإقتصادية التى كانت تواجهها مصر قبل اندلاع ثورة يوليو وبسبب انتقاده الحاد اضطهده الملك فى فترة من الفترات، وتم نفيه عدة مرات فقد نفى من مصر إلى تونس ثم باريس لتبدأ أعماله كشاعر منفى يحن إلى وطنه ثم عاد إليه بعد ثورة 1952 التى فرح وأشاد بها كثيرا وألف العديد من الأعمال الغنائية التى تعامل فيها مع كبار الفنانين المصريين مثل أم كثلوم، فريد الأطرش، محمد فوزي، أسمهان، وشادية، ومن أهم أعماله وأشهرها أوبريت «ليلة من ألف ليلة»، أوبريت «شهرزاد»، «عزيزة ويونس»، «سيرة الظاهر بيبرس» وغيرها من الأعمال التراثية التى أثرى بها الفن والموسيقى والمسرح.