الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
أيمن عبد المجيد

الحق الضائع لـ«عبد القادر رزق»

الحق الضائع لـ«عبد القادر رزق»
الحق الضائع لـ«عبد القادر رزق»




بقلم د. ياسر منجى

مِن الظواهِر التى ترتَبِطُ بمعظم الكتابات التوثيقية، الدائرة فى فلَك تاريخ الفن العربي، اعتمادُ كاتِبِيها على النقل المباشر المُطمَئِنّ - دون مُراجعةٍ أو تمحيص أو اختبار - من عددٍ قليلٍ من المصادر المحدودة، التى شاعت وحَظِيَ مؤلِّفوها بدرجةٍ من الشهرة، وبالكثير من الثقة، إلى أن صارت مؤلفاتُهم فى حُكم الثوابت التى لا تُناقَش، والحقائق التى لا تُراجَع.
ومع تعاقُب النقلِ عن مَنقولٍ عن ناقل، ومع تَواليِ ترديد المُكَرَّر والذائع مِن المعلومات، استقرَّت فى ذاكرة الفن العربى أخطاءٌ لا حصرَ لها، وشاعَت معلوماتٌ وأفكارٌ لا سَنَدَ لها مِن الحقيقة.
وقد تنَوّعَت تلك الأخطاءُ، وتعدَّدت درجاتُ تأثيرِها، بدايةً مِن السهو الذى يمكن تدارُكُه، مروراً بظلالٍ متعددة من الثقة المُطلقة فى المصادر المنقول عنها، أو استسهال النشر دون مراجعةٍ دقيقة، وانتهاءً ببعض الحالات التى لا تخلو من مَظَنّة الإثبات المُتَعَمَّد لما لا يَثبُتُ أمام مِجهَر الحقيقة التاريخية.
فى هذا السياق المتراكب التعقيدات، نُلفى أنفُسَنا بإزاء ركامٍ من المادة التاريخية متعددة الطبقات، التى خلقت فى الوعى العام صورةً لفَنِّنا المصرى الحديث، وإن كانت تَتَّسِقُ فى ملامحها العامة مع مُجْمَل السِمات الرئيسية لسياق التحولات السياسية المُواكِبة للفترةِ نفسِها، غير أنها ملامحُ تختلطُ بالعديد من الغضون والتجاعيد، وتعانى أحياناً من بعض الرتوش المُضافة والظلال المُخاتِلة.
وقد لا نجدُ تفاقُماً لأثرِ تلك التجاعيدِ والغضون، ولا لفِعل هذه الرتوش والظلال، بِقَدْر ما نجدُ فى سياق التأريخِ للنحت المصري؛ إذ هو مجالٌ عانى – على كثرة ما كُتِبَ عنه، وبرغم الكثافة العدديّة للأقلام التى تناولَته – من ضعف التدقيقِ البحثي، ومن الثِقة المُفرِطة فى تكرار اللاحقين لما ورد فى كتابات السابقين، الأمر الذى أدى لسقوط العديد من الوقائع المهمة فى غياهب النسيان، وبالتالى إلى الخروج بنتائج منقوصة ودلالات مُجتَزَأة.
من هنا تنشأُ الحاجة إلى وجوب المراجعة والتَثَبُّت، لمحاولة الاقتراب، قَدْر المستطاع، من الصورة الحقيقية لمُجْمَل ما حدث، ولمحاولة استعادة الوقائع الغائبة والكشف عن الأحداث المنسية، عَلَّنا نتمكن من إزاحة الظلال عن وجه هذا المجال المهم، الذى ارتبط – فى أهم نماذِجِه الإبداعية، التى تَفَتَّقَت عنها قرائح المُبَرِّزين من فنانينا – بسياق الكفاح الوطنى فى تاريخنا الحديث، وبتطورات الفكرة القومية منذ نشأتِها وحتى الآن.  
   ونحن إذ نلتحم بشَطرٍ من الوقائع المَنسية، التى ارتبطت ببعض النماذج الشهيرة فى هذا المجال الثريّ، فإننا لا نستعرض، فى حقيقة الأمر، محض وقائع تاريخية طال غيابُها. إننا، ببساطة، نسترجع اشتباكات قرنٍ كاملٍ من التحولات السياسية، والاجتماعية، والثقافية، فعَلَت فِعْلها فى تكوين المجتمع المصرى بأسْرِه، خلال حقبة من أحفَل حِقَبه التاريخية بالتحولات والتبَدُّلات والتموُّجات، انعكست أضواؤها وتداخلت ظلالُها على مَرايا الفن المصرى الحديث، وجَسَّدَها النحت الميدانى شاخصةً ضِمن نسيجنا العُمراني، لتشهدَ على قرنٍ مُنصَرِمٍ من التفاعُلات، التى أرسَت معالم خريطة التكوين والتطور فى مجتمعنا الحديث.
   ويتجلى السياق السابق بأوضح سماتِه من خلال نموذجٍ شهير، ظل ثاوياً فى طوايا الظلال والخفاء عقوداً متتالية، شهد خلالها محاولةً موءودة لابتعاثِه من قبضة النسيان، عاد على أثرِها لمُعتَزَلِه القَسري، قبل أن يُعاود الإطلال مرةً أخرى فى العام الماضي.
   غير أن تلك الإطلالة – ويا للأسف – لم يُكتَب لها أن تستوفى بهاءَها المنشود؛ إذ طالها القصور والنقصان فى مقتَل، ليُطيح بالحق الأدبى والتاريخى لمُبدِع التمثال؛ حين تم تجهيلُه وإغفال ذكرِه، على المستوى الإعلامى والرسمى – وكذا مِن قِبَل الفنانين والنقاد المتابعين للحدَث – بل إلى درجة نِسبةِ إبداعِه إلى مجاهيل من الأجانب، على سبيل الظن والتخمين!     
   بدأت وقائع هذه الإطلالة المأزومة خلال يناير من عام 2016، حين تداولت بضعة مواقع صحفية وإعلامية، وقائع جدال جرى بين رئاسة مدينة «بور فؤاد»، وبين فنان مصرى متميز من مشاهير فنانى إقليم قناة السويس، حول أحقية متابعة تنفيذ تصميمات مشروع تطوير وتجميل «ميدان المعَدّيات» ببور فؤاد، وهو مشروع يتضمن تنظيف تمثال برونزى قديم للملك فؤاد، كان منسياً لقرابة 65 عاماً بمخزن الترسانة البحرية ببور فؤاد، وإعادة تنصيبه فوق قاعدة مسلة خالية بمنتصف الميدان.
   وقد آلَ هذا الجدل إلى نوعٍ من التسوية، انتهى بإتمام المشروع، وإعادة تنصيب التمثال المنسى فى الموقع المذكور، خلال شهر فبراير 2016. وتداولت كثرة من المواقع الإخبارية بعض تفاصيل الحدث – من بينها موقع «صدى بور سعيد»، و«البوابة نيوز»، و«صدى البلد» -
وهى مواقع أجمعَت، وفقاً للتصريحات التى نسَبَتها إلى القائمين على تنفيذ المشروع، أن التمثال «مبهر الأداء والتعبير وغير موقع عليه باسم الفنان الفرنسى الذى صممه أو المسبك الذى نفذه».
 إذَن فقد جزَم القائمون على مشروع إعادة تنصيب التمثال بكون مصمم التمثال (فرنسياً)، برغم خُلُو التمثال والقاعدة من التوقيعات الدالة على شخصية النحات! ولا أدرى على وجه اليقين لماذا كان هذا التعيين القاطع لـ(فرنسية) النحات المجهول؟ هل لمجرد أن التمثال للملك الأسبق «أحمد فؤاد الأول»، يستتبع بالضرورة أن نقطع بنِسبَتِه إلى غير المصريين من النحاتين؟ أم تُرى قد استقر فى الوعى العام، أن كل ما يمُتّ بصِلة لعصر أسرة «محمد علي» ينبغى أن يكون مقطوع الصلة بأى سياقٍ وطنى؟!
   أيّاً كان السبب، فيبدو أن حقائق التاريخ تأبى إلا أن تدحضَه، ويبدو أن الوثائق والشواهد تأبى إلا أن تنزع عنه منطقيَّتَه، لتُعيد الحق إلى صاحبِه، ولتُعاوِد إنصافَ واحدٍ من ألمَع نحّاتى جيل الثلاثينيات فى مصر، وأحد أبرز قادة المؤسسة الفنية المصرية على امتداد سنوات طوال.
   وقبل أن نستَبين علاقة هذا النحات المَكين بمشروع إقامة التمثال المذكور - والذى كان أهم مشروعات تماثيل الملك «فؤاد» وأشهرها - وهو مشروع تمثاله الخاص بالمدينة التى تحمل اسمه، «بور فؤاد»، يَحسُن أن نُلِمّ بتفاصيل وقائع المشروع من بدايتِه الأولى، وبالتحولات التاريخية والسياسية التى تناوَشَتْه عَبر تاريخِه.
   يتضِح من المكاتبات الأصلية، التى تحتفظ بها «دار الوثائق القومية» (بشأن تخليد ذكرى الملك «فؤاد الأول»، بإقامة تمثال له بمعرفة شركة «قنال السويس»، وافتتاح قناة «فاروق الأول» سنة 1951 م) - وهى مكاتبات تحمل الكود الأرشيفى رقم 0081-038710، وتمثل جزءاً من ملفات مجلس الوزراء - أن خطابات المتابعة التنفيذية لهذا المشروع، تستغرق الفترة من 27 يناير 1951 إلى 3 أكتوبر 1951.
   غير أننا سرعان ما نتبَيَّن أن قصة هذا التمثال تمتد إلى وقت سابق لتاريخ هذه المكاتبات؛ إذ يمكننا اعتبار أن التمهيد لفكرته بدأ عندما افتتح «الملك فؤاد» بنفسه «الحى الآسيوي» الشهير فى تلك المدينة، في21 ديسمبر من عام 1926. وحدث فى يناير1944 - أى بعد نحو سبع سنوات وعشرة شهور من وفاته فى 28 أبريل 1936 - أن تم تعيين «فؤاد شيرين» باشا محافظاً للقنال (بورسعيد والإسماعيلية)، فعزم على إقامة تمثال للملك الراحل، وكانت تربطه به صلة مصاهرة، وحالت معارك الشرطة فى الإسماعيلية في25 يناير دون زيارة «الملك فاروق» لبورسعيد، لرفع تمثال والده على قاعدته فى ميدان «المعدّيّة» ببورفؤاد.
   وبقيام ثورة يوليو انقطع كل رجاء لإقامة هذا التمثال فى موضعه، لتظل قاعدته خالية، وليظل قابعاً فى مخازن «هيئة قناة السويس» فى تلك المدينة العريقة. وقد جرت محاولة، بعد ما يزيد على خمسين عاماً، من تاريخ هذا المشروع المبتسَر، لإتمام إقامة التمثال فوق قاعدته؛ إذ جرت عملية إقامة التمثال فى أول يونيو2002، ونُصِب بالفعل فوق قاعدته، غير أن أصواتاً رافضة ارتفعت بمعارضة الفكرة، بحجة عدم لياقة تكريم رموز (العهد البائد)، فأعيد التمثال إلى مخازن الحى بعد ثلاثة أيام فقط! وهو ما نُشِرت بعض وقائعه عام 2003 بمجلة «النهضة الكويتية»، من خلال تحقيق ورد فيه: «كانت صحوة رائعة حضارية؛ أطلقها مجلس محلى حى «بورفؤاد» والقيادات السياسية والنخبة من مفكرى وأدباء وفنانى بورسعيد، فقد صدرت الأوامر بتجديد التمثال والجمع بينه وبين قاعدته بعد طول غياب قوامه أكثر من خمسين سنة، وتم فعلاً تنظيف التمثال ونقله ووضعه على القاعدة، ولكن لم تمض عشرة أيام على وجود التمثال حتى نشط معارضو الفكرة، واستطاعوا رفع التمثال من مكانه مرة أخرى، وإعادته إلى مرقده السابق فى مخازن «هيئة قناة السويس» لتبقى القاعدة فارغة من تمثالها».
   وسرعان ما تُسعِفُنا وثيقةٌ أخرى، على درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية، لتُميط اللثام عن شخصية النحات صاحب التمثال، لنكتشف أنه الفنان المصرى «عبد القادر رزق»(1912- 1978)، أحد أبرز أسماء الجيل الثانى من النحاتين المصريين، والذى اشتهر بمهارته النحتية التى امتزجت بطابع شخصيته المصرية الريفية.
   تتمثل هذه الوثيقة - أو بالأحرى الوثيقتَين - فى المجلدَين الثانى والثالث، من الإصدار العلمى المهم، الذى كان يُعرَف باسم «نشرة جمعية الدراسات التاريخية والجغرافية لبرزخ السويس»  
Bulletin de la Société d>Etudes Historiques et Géographiques de l>Isthme de Suez، وهى جمعية تألفت من مجموعة من الباحثين المتخصصين فى التاريخ والجغرافيا، اتخذت من مدينة الإسماعيلية مقراً، بينما كانت تطبع نشرتها تلك فى مطبعة «الكاتب المصري» بالقاهرة.
   يأتينا المجلد الثانى من تلك النشرة، ليغطى موسم عام 1948، وليطالعنا فى صفحته التاسعة بفقرةٍ عنوانها: «تمثال لجلالة الملك فؤاد ببور فؤاد» STATUE DE S.M. LE ROI FOUAD, A PORT-FOUAD. وتُلمِح الفقرة فى بدايتها إلى دور «فؤاد» فى تشجيع الآداب والفنون والعلوم، التى صارت سِمةً لعهدِه، قبل أن تسوق خبر اعتزام «شركة قنال السويس» إقامة تمثال للملك الراحل على نفقتها، مُصَرِّحةً، بما لا لبسَ فيه أن هذا التمثال البرونزى من عمل النحات «عبد القادر رزق»، وأنه سيُحتَفَل بإزاحة الستار عنه عام 1949 أو عام 1950.
   ثم يأتى المجلد الثالث من النشرة نفسها، والذى يغطى موسم العامَين 1949 و1950، ليؤكد المعلومة نفسها بما لا يدع مجالاً لشك؛ وذلك حين نقرأ فى صفحته الثانية فقرة تحمل العنوان نفسَه، وتتضمن خبر انتهاء «عبد القادر رزق» من صُنع تمثاله خلال صيف عام 1950. كما تتضمن الفقرة خبراً مفاده أن الافتتاح الرسمى لمشروع التمثال قد أضحى وشيكاً.
   ونتبين مما سبق أن نحاتينا المصريين لم يقِلّوا شأناً عن نظرائهم الأجانب خلال تلك الفترة، وأنهم نافسوهم فى حظوة الانفراد بنحت تماثيل الحكام من رموز الأسرة العَلَوية، ما يعكس مدى ما تمتعوا به من مهارة وقدرة كانت سبباً، من ثَم، فى نيلهم ثقة القصر. بالتالي، فإن الاعتقاد الشائع، بأن كل ما ينتمى فنياً إلى هذا العهد إنما هو نتاجٌ أجنبيٌّ وافدٌ مُستَجلَب، أمرٌ بات يحتاج إلى مراجعة وتدقيق، ومِن ثَم بات التَسَرُّع باستنتاج (فرنسية) صانع تمثال «فؤاد»، والترويج لذلك إعلامياً على نطاقٍ واسع، أمراً لا يعتَوِره الخطأ فقط، بل ويؤدى إلى الإزراء بحقّ واحدٍ من أساطين النحت المصرى الحديث، وإلى الترويج لخطأٍ تاريخيٍّ كبير.
   ومن المفارقات الغريبة، أن الوثائق السابق ذكرُها، وإن كانت هى المصادر الوحيدة التى تؤكد نسبة التمثال لـ«عبد القادر رزق»، إلا أنها لم تمثل بمفردها شواهد هذه النسبة؛ إذ يشاركها فى ذلك شاهدٌ موجود تحت بصر الجميع، وإن لم يلتفت أحدٌ إليه! ذاك هو النموذج الجبسى الأصلى الذى نحته «رزق» لهذا التمثال، والموجودة صورتُه على صفحة سيرته الذاتية بالموقع الإلكترونى لقطاع الفنون التشكيلية المصري، والتى يبدو من مقارنتها بصور النسخة النهائية للتمثال مدى التطابق التام بين النموذج ونسختِه الميدانية، فى الوقت التى تخلو فيه مادة السيرة نفسِها من أية إشارة لهذه الصلة، ومن أية كتابات نقدية أو تاريخية تتعرض لذِكر هذا المشروع فى مسيرة «عبد القادر رزق»!
   لن أتعرض هنا لتفصيل سيرة «عبد القادر رزق» الثرية، ولا لدوره فى إدارة الأكاديمية المصرية بروما ما بين عامَى 1950 و1955، ولإدارة الفنون الجميلة والمتاحف بوزارة الثقافة، ولا لشخصيته التى فرضت هيبتَها، وعلى تلامذته بقسم النحت والقسم الحر بكلية الفنون الجميلة القاهرية، ولا لإسهاماته فى إقامة متاحف فنية مهمة وإيجاد فاعليات مؤثرة فى حياة أجيال من الفنانين المصريين. كذلك فإننى لن أعاود الحديث عن دوره فى حركة الفريق «عزيز المصري» المناهضة للاستعمار الإنجليزى خلال الحرب العالمية الثانية؛ إذ هو دورٌ كنتُ قد استعرضتُه بإسهابٍ فى مقالٍ سابقٍ لي، نُشِر بعدد شهر أكتوبر 2011 من مجلة «الخيال»، تحت عنوان: «النحات والجنرال... صفحة منسية من سيرة «عبد القادر رزق». لن أتعرض لكل ذلك، وسأكتفى بتركِها إلماحات لمن أراد الاستزادة والبحث.
غير أنني، من جانبٍ آخر، أرى أنها إلماحات تزيد مرارة شعورنا بمقدار الغُبن الذى وقع على هذا النحات المهم، وعلى غيره من أفذاذ فنانينا الراحلين، عندما أُهمِل توثيق مشروعاتهم الكبرى، فأُغمِط بالتالى حقهم التاريخى والأدبي، إلى الحد الذى نُسِبَت معه جهودهم إلى غيرهم من فنانى الغرب، جريرة الاستسهال البحثى وتداوُل الأخطاء الشائعة والمعلومات الجاهزة، وهى آفات ما برحت تعيث فى جسد التأريخ للفن المصرى الحديث.