الجمعة 29 مارس 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
احمد باشا

تشيخوف.. رائد الواقعية فى الأدب الروسى

تشيخوف.. رائد الواقعية فى الأدب الروسى
تشيخوف.. رائد الواقعية فى الأدب الروسى




كتب – خالد بيومى

يعد أنطون تشيخوف « 18- 1904» رائد فن القصة القصيرة على مستوى العالم يأتى بعده الأمريكى «إدجار الآن بو»، ورغم، أنه لم يعش أكثر من أربعة وأربعين عامًا، واستمرت مسيرته الإبداعية قرابة ربع قرن، وجاءت أعماله الإبداعية كنهر فياض يموج من خلاله بالعديد من القضايا الإنسانية والاجتماعية والأخلاقية والفلسفية والدينية والجمالية، ويقدم لنا «تشيخوف» كوكبة من شخصيات المجتمع الروسى من بينهم الفلاحون البسطاء من أقصى شمال إلى أقصى جنوب أقاليم روسيا القيصرية، ورجال الشرطة، والداية «المولدة»، والممثلون والخياطون، والسجناء والطهاة، والراهبات، والشمامسة، والقساوسة، والرهبان، ولاعبو السيرك، والإقطاعيون، والموظفون من مختلف درجات السلم الوظيفى، والمدرسون والطلاب، ورعاة الأغنام، والخدم، وسعاة البريد والأطفال، وقد كتب تشيخوف قرابة تسعمئة قصة قصيرة هزلية خلال مشواره الفنى.
لم يكن مشواره الإبداعى مفروشا بالورود، بل كان مكتظا بالأشواك والصعاب، حيث ولد فى بيت صغير ولم ينعم بطفولة سعيدة، فى الليل كان يذاكر دروسه على ضوء شمعة باهت وكان يعمل فى دكان والده الذى اعتبره عمل ابنه فى الدكان بمثابة مدرسة عملية للتعرف على الحياة، وكان الدكان شديد البرودة ويقبع البائع الصغير ويقشعر بدنه من برودة الجو ولا يستطيع أن يعترض.
وتميز أسلوبه فى السرد بالاقتضاب والإيجاز وقوة التعبير.. وكان بارعا فى الغوص فى أعماق النفس البشرية، وكشف الحقيقة العميقة التى لا يراها الغالبية العظمى من البشر.
أسهم تشيخوف فى تأصيل فن الفودفيل «المسرحية ذات الفصل الواحد» فى روسيا، وهذا الفن وافد من فرنسا.. ومن أشهر مسرحيات الفودفيل: «قوزاقى شاعر، الفلاحون أو لقاء المتطفلين، والدب، وبستان الكرز».
ويحتل تشيخوف المرتبة الثانية بعد شيكسبير من حيث الشهرة، وتكرار عروض نصوصه، لقد ملك تشيخوف معرفة عميقة بالشعب الروسى نتيجة معايشته عن قرب، فتجربته فى ممارسة الطب أسهمت فى تقوية وتعزيز شكوكيته وارتيابيته.. والأمل عنده لا يؤثر فى دقة تشخيصه للأمراض. ففى كتابه «شقاء الآخرين» تظن أنه مرآة للواقع كأنه ينقل مئات المناسبات والأوضاع والمواقف: انتحارات، آلام الحب العنيفة. رعب الحياة.. الخ.
ومشاهداته وأن تركزت على الانسان الفرد، إلا أنه أيضا فضح خفايا إدارة القيصر الفاسدة والعاجزة. ولكنه فى هذا الإطار مهما قسا لا يصل إلى حدود الالتزام السياسى أو الاوهام فى تمنى الإصلاح كما غوركى مثلًا ويمكن فهم نظرته فى قوله: «الأدباء الكبار والفنانون الكبار لا يجب أن يعملوا فى السياسة إلا متى كانت هناك حاجة للدفاع عن أنفسهم».
ومن أقواله الشهيرة: «إن الكلمات مهما كانت جميلة لا تؤثر إلا فى ذوى النفوس اللامبالية. ولا نستطيع دائمًا أن نرضى السعداء أو التعساء.. ويبدو اسمى تعبير عن السعادة أو التعاسة هو الصمت، فالعشاق يفهمون بعضهم بعضًا عندما يصمتون».
والواقع الذى صوره جاء أروع من الخيال وخلص إلى أن الجميع من أبناء المجتمع مذنبون، فالطغاة استبدوا وطغوا ولم يجدوا أحدًا يصدهم عن طغيانهم، والضعفاء ركعوا وأهينوا ولم يقولوا كلمة حق فى وجه سلطان جائر.. وآخرون وقفوا عاجزى مكتوفى الأيدى دون أن يفعلوا شيئا وتعاملوا مع الموقف بصورة سلبية.
وتتضمن قصصه الجديدة صورًا فنية مكتملة تنطوى على تحليل عميق للواقع، ويثير بعضها فى القارئ، على نحو غير مباشر، مشاعر الرفض للحكم القيصرى المستبد، ولواقع التفاهة والجشع واللهاث وراء المصالح المادية الدنيئة، وتبرز فى هذه الأعمال موهبة الكاتب وحسه المرهف فى تصوير شخصيات نموذجية حية تختزل بفنية عالية الطبائع الاجتماعية السائدة، فبعض أبطاله يستكينون لشروط الحياة الرمادية المتكلسة، ويقتصر كل طموحهم على تحقيق رغباتهم التافهة، فى حين تطرأ على حياة أبطال آخرين أحداث معينة مادية أو معنوية تدفعهم إلى التفكير فى معنى وجودهم ودورهم فى الحياة، وينتهون إلى الاقتناع بضرورة الانعتاق من إسار العادة التى تخدر ضمائرهم ومشاعرهم، ومحاولة تغيير نمط حياتهم على نحو يمكنهم من تحقيق إنسانيتهم.
ويلاحظ هنا ميل تشيخوف إلى الاقتناع بعدم جدوى أفكار تولستوى المتمثلة فى الإحجام عن مقاومة الشر بالقوة، وفى التنافر بين الحب الجسدى والمبادئ الدينية المثالية، وتتكرر على لسان أبطاله عبارات التفاؤل بالمستقبل والإيمان بحتمية التقدم نحو حياة أفضل.
كان تشيخوف متعاطفا مع الكادحين والمهمشين وتجلى ذلك فى قصص «العازف الأجير»، و«المصيبة»، و«وحشة»، و«هرج»، و«فانكا».
كما انتقد أخلاق وسلوكيات المثقفين فى عصره، وتجلى ذلك فى قصص «المبارزة»، و«اللعوب»، و«عنبر رقم 6».فى مواجهة عالم الزيف والخداع والأنانية يبرز تشيخوف جمال الشخصية الشريفة المتفاعلة مع المجتمع.
وفى المرحلة الأخيرة من حياته كتب تشيخوف مجموعة من الأعمال التى أصبحت جزءا من التراث الكلاسيكى العالمى منها: المنزل ذو العلية، الفلاحون، الرجل المعلب، العروس، وفى الخور.
حين كان يسأل تشيخوف السؤال التقليدي: أى أعماله أكثر قربا لقلبه، فقد كان يجيب بشكل دائم: قصة « الطالب». وهذا لأمر يبعث على السرور، لأن تشيخوف يظهر هنا بالضبط وبشكل موجز للغاية ذلك الانتقال من القبول الاعتيادى للإنجيل ككتاب اثرى إلى الفعل الذى يحمله الكلام الإلهى على الإنسان. موضوع القصة بسيط. طالب من الأكاديمية الروحية، تحت تأثير الإحساس بالواجب، يذهب فى اليوم السابق لعيد الفصح ليقرأ من الإنجيل على الأرامل فى حاكورات منازلهن.. إنه جائع وحزين، ويشعر بالبرد. هو لا يرى فى «عمله العبادى» أى معنى. يبدأ بالحديث عن تبرؤ بطرس (المقصود به نكران بطرس للمسيح ـ المترجم)، عن البكاء المرير للحوارى، وعن عذابات الضمير لديه، وفجأة يرى التلميذ كيف أن إحدى النسوة تبكى. فيشعر بالقلق: هذا يعنى أن كل ذلك الذى حدث فى تلك الليلة الرهيبة مع بطرس يلامس هذه المرأة بشكل ما. إذا بكت العجوز، فليس لأنه هو، الطالب، يجيد التحدث بشكل مؤثر، بل لأن بطرس ومعاناته قريبان ومفهومان بالنسبة إليها.